محاكمة القرن الواحد والعشرين
تسمّر ملايين العرب، بكل ما يعنيه هذا العدد من معنى، أمام الشاشات الفضائية ليتابعوا بكل اهتمام ما أُطلق عليه : " محاكمة القرن الواحد والعشرين " .
خلال الخطبة العصماء لرئيس المحكمة ، وخلال النطق بالحكم ، كان الصمت يسود معظم البيوت المصرية والعربية والشوارع والمحلات والمكاتب بانتظار هذه اللحظة التاريخية التي ستحدد: كيف سيصنع " القانون " تاريخ مصر الحديث أثناء وبعد محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك .
وعندما نطق القاضي بالحكم المؤبد على " الريـّـس " ووزير داخليته حبيب العادلي متهماً إياهما بالتوّرط في قضايا قتل المتظاهرين في ثورة الـ ٢٥ من يناير، ارتفعت الأصوات مجلجلة بالتكبير: الله أكبر – الله أكبر.
لقد بدا قاضي المحكمة في " خطبته " المكتوبة بعناية والتي تشير إلى تحرره والقضاء المصري من رمزية ما يعنيه حسني مبارك ، بدا واثقا بطريقة إلقائه ديباجة الحكم : بأننا أمام فتحٍ جديدٍ لمصر وبداية عهد لها تسوده الديموقراطية والعدالة.
لكن هذه النبرة وهذا الإيقاع المصاحب لرتم انتظار قلق ، كانت مقدمة لصاعقة الحكم المؤبد للرئيس ، ولصاعقة البراءة لنجليه علاء وجمال ومساعدي وزير الداخلية الذين أعلن عن براءتهم من دماء المصريين ومن فسادهم وإفسادهم ، ولكأن ما نشاهده في مصر من عشوائيات وما يعيشه المصريون من فقر وتشرد وجوع وبطالة ما هو إلا مجرد " ديكور " في مسلسل اجتماعي درامي ضخم.
مواطنون مصريون محكومون أحكاما قضائية تصل إلى السبع سنوات في قضايا عدم تسديد شيك بقيمة ١٠٠٠ جنيه، ووحوش أكلت الأخضر واليابس واستملكت البلاد واستعبدت العباد فباعت واشترت وجمعت الثروات وعاثت في الأرض فسادا يحكم عليها " براءة " .
كانت أولى ردات الفعل التلقائية تعالي صيحات الغضب والاستنكار داخل القاعة وخارجها وما لبث المشهد أن تحول من قاعة المحكمة إلى كل مساحة مصر غضبا عارما ، انتقل إلى مساحات واسعة من الشعوب العربية التي صدمت – كالمصريين – بالحكم المستهجن والمستفز .
لقد تبدى بما لا يدع مجالا للشك بأن الريبة التي اعتورت المصريين خلال الستة عشر شهرا المنصرمة حيال المجلس العسكري كانت في محلها ، وتبدى أيضا بأن المجلس العسكري لم يكن يوماً مع الثورة وإنما يسعى إلى احتوائها ثم يتواطأ مع خصومها على أهدافها.
لقد لعب المشير طنطاوي – رجل حسني مبارك – ومن خلفه المجلس العسكري اللعبة بشكل صحيح ، فهو قد أوحى للجماهير المصرية المحتشدة أنها هي من تقرر مصيرها وأنه مجرد قائد لهذه المرحلة الانتقالية ، بينما النتيجة كانت اغتيال الثورة والإلتفاف عليها .
فها هو الحكم العسكري يقدم مزيدا من الدعم لآخر رئيس حكومة في عهد مبارك وهو الفريق أحمد شفيق الذي ينتمي أساساً لهذه المؤسسة العسكرية ، والذي سيحافظ ، حتماً، في حال فوزه بالانتخابات، على الامتيازات الهائلة التي يتمتع بها كبار الضباط .
لكن يبقى السؤال الأهم : هل سيسمح المصريون الذين ضحى أبناؤهم بحياتهم في سبيل الإطاحة بحسني مبارك باغتيال ثورتهم وأحلامهم ودماء أبنائهم ؟ .
لا شك أن خيبة الأمل التي أصابت المصريين وكل الشعوب العربية المعلقة آمالها على مصر الجديدة ، لما لها من دور قيادي كبير في الأمة العربية، سيكون دافعاً لثوّار وشعب مصر بأن تتوحد كلمتهم وصفوفهم من أجل إنجاز المهمة .
.....
كل الإنجازات التي تحققت غير مهمة ، ما لم تنجز المهمة الأكبر والاصعب والأخطر : وهي تحرير مصر من الفلول .
د.فطين البداد
fateen@jbcgroup.tv