الفاروق
ترددت كثيراً في الكتابة عن هذا الموضوع – ليس لقلقٍ منه - بل لأن القلم يأبى إلا أن يكتب عن المجازر والفظائع التي تحدث في سوريا بحق الشعب السوري العظيم، وآخرها مجزرة " التريمسة " التي راح ضحيتها المئات.
لكن، في الوقت نفسه، تعجز الكلمات عن التعبير عن فظاعة وبشاعة النظام الأسدي الفاقد لشرعيته السياسية والإنسانية، وتعجز عن التعبير عن الألم العميق وعن دماء الشهداء ، وتخجل ممن يموتون وممن يدفنون أحبابهم ونحن نكتب لهم نثرا منثورا .
وأستذكر هنا ما قاله الكاتب السوري الراحل محمد الماغوط : كل الأوطان تنام وتنام ، وفي اللحظة الحاسمة تستيقظ ، إلا الوطن العربي فيستيقظ ويستيقظ ، وفي اللحظة الحاسمة ينام .
غير أن موضوعي اليوم ليس ببعيدٍ عما يجري عموماً من أحداث في الوطن العربي وتحديداً فيما يخص الشقيقة سوريا :
جميعنا قد سمعنا عن عرض للمسلسل التاريخي الضخم ( الفاروق ) في رمضان القادم، الذي يتحدث عن ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سماه الرسول الأعظم بـ " الفاروق " – حسب بعض الروايات - فقد كان قاضياً خبيراً وقد اشتهر بعدله وإنصافه للناس من المظالم سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم وتسميته " الفاروق " جاءت لأنه الفارق بين الحق والباطل.
وكما هو متوقع ، فقد أثيرت زوبعة حول تجسيد دور الفاروق وبقية الصحابة مع أنه قد تم استشارة وآخذ أراء وموافقات جميع الهيئات الشرعية بما فيها المجامع الفقهية في رابطة العمل الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وهيئة كبار العلماء ومجمع البحوث في الأزهر وغيرها.
أي أن الموافقات قد تمت بعد أن استكملت كامل أوجهها الفقهية ، وعبر مراجعها الأصيلة والمعتمدة ، لما يشكله هذا العمل التاريخي الضخم الذي يتحدث عن أشهر الأشخاص والقادة في التاريخ الإسلامي ومن أكثرهم أثرا وهو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في لعب دور هام في تقديم التاريخ الإسلامي بشكل واقعي بعيد عن التزييف والكذب خصوصاً وأن المسلسل - كما يذكر صُناعه - تم فيه مراعاة التوجه بالخطاب إلى المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وبالتالي ، فقد جاء ليحقق الهدف الأساسي المُراد منه وهو تصحيح صورة الإسلام لدى البعض وحسن تقديم الصحابة رضوان الله عليهم.
وبرغم هذا ، فإن هناك جماعات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها ممن يدعون إلى عدم عرض هذا العمل الدرامي بحجة تحريم تجسيد الصحابة، أو على الأقل مقاطعته بعد إخفاق ضغوطاتهم على الجهات المعنية لمنع عرضه.
هؤلاء قصيروا النظر ، الذين لا يرون أبعد من أنوفهم ولا يسمعون إلا صوت عقولهم المتحجرة يجهلون ماهية الحقيقة والغاية من إنتاج عمل تاريخي ضخم كهذا هو أحوج ما نكون إليه في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا الإسلامية ، وبخاصة عندما يُدبلج ويُترجم إلى لغات عدة وبالتالي ينتشر حول العالم.
شخصية مثل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه غير مريحة بل ومكروهة من قبل البعض ، فهو القائد العسكري الذي استطاع - من خلال حملاته العسكرية المنظمة والمتعددة - من إخضاع الفرس الذين كانوا يفوقون المسلمين قوة، حيث تمكن من فتح كامل امبراطوريتهم في أقل من سنتين ، بالإضافة إلى كل آثاره الخالدة .
هو القائد المقدام صاحب الحنكة السياسية والإدارية الذي استطاع الحفاظ على تماسك ووحدة الدولة الإسلامية التي كان حجمها يتنامى يوماً بعد يوم وعدد سكانها في ازدياد.
قــتل على يد الفرس بعد أكثر من عشر سنوات على توليه خلافة المسلمين ، قتله فارسي يدعى فيروز ويكنى بـ " أبو لؤلؤة " ( بنى له الشيعة مقاما يحجون إليه في إيران حيث يقدسونه ويبكون على قبره ) فلقد كان الفرس يضمرون لقائد الدولة الإسلامية الحقد والكره بسبب دحره جيوشهم وقضائه على امبراطوريتهم الواسعة الأطراف.
واليوم ، وفي نظرة لما تتعرض له سوريا من عنف مفرط وقمع دموي وجرائم ضد الإنسانية، وما نشهده من دعمٍ للنظام الأسدي من جانب الصين وروسيا التي تحاول التمسك من خلال سوريا بآخر موطئ قدم لها في الشرق الأوسط لموازنة الحضور العسكري الغربي في البحر الأبيض المتوسط ، ووقوف إيران وممثلها في المنطقة حزب الله ودفاعهما عن نظام الأسد المجرم واعتباره حليفهما الإقليمي في المنطقة ، فإن لذلك كله اعتبارات عدة من بينها وأهمها دعم هذا النظام لمطامع إيران ومحاولاتها لاستعادة النفوذ الفارسي على الدول العربية وتأسيس الهلال الشيعي الخصيب، هذا الحقد الأزلي الذي لم تفلح القرون والسنون في إطفائه والذي حذر منه جلالة الملك عبد الله بن الحسين في إحدى المناسبات : هلال شيعي يمتد ليشمل سوريا والعراق والأردن وجنوب الجزيرة لتحقيق حلم الدولة الفارسية الجديدة على اعتبار أن إيران هي الوريثة التاريخية لفارس " العظيمة " التي أطفأ نارها الفاروق بقيادة سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية العظيمة .
لذا وفي ظل هذه المحاولات لتشويه تاريخ المنطقة وسرقته ، وأمام محاولات إيران وحلفائها لتحريف تاريخ الإسلام ، وبدلاً من أن ندعم هذا المشروع الكبير وغيره وندعو إلى متابعته، ننبذه ونحرض على محاربته ومقاطعته ونحكم عليه مسبقاً حتى قبل مشاهدته.
لطالما كان الإسلام دينا متحركا في الزمان في ما يتعلق بالفقه والأعمال ( لا أتحدث عن العقيدة وثوابت الدين ) ولطالما كان دين يسر وليس دين عسر ،ومن أجل ذلك فإنه آن أوان التبصر بما حولنا ويما يحيكه أعداؤنا ، ونذكر بأن هذا العمل جاء بعد استشارة العلماء والفقهاء في الدين الإسلامي، وهو في نتيجته يصب في مصلحة ديننا وشعوبنا العربية والإسلامية .
لنكن أبعد نظراً وأكثر وعياً ولنحذر ممن هم وراء مثل هذه الدعوات ولنعلم أن الحرب اليوم لم تعد فقط على الأرض وإنما عبر فضاءات متعددة منها الفن والاعلام والانترنت.
د.فطين البداد
fateen@jbcgroup.tv