صندوق النقد الدولي وقروض الأردن
مر إقرار صندوق النقد الدولي للدفعة الثانية من القرض الذي منحه للأردن وبقيمة 5، 384 مليون دولار من أصل مليارين طلب الأردن أن تدفع على دفعات ( إحداها قدرها 3 ر256 مليون دولار وتوزع البقية على ثمانية أقساط متساوية قدر كل قسط 2ر128 مليون دولار ) مر هذا الأمر مرور الكرام ، دون أن يسأل أحد عن طبيعة هذه القروض ، وكيفية دفع استحقاقاتها ، وكأن الأمر " جمعة مشمشية " على الإقتصاد تتطلب أن يهتف الناس لها ويصرخوا ملء حناجرهم بحياتها .
فقد قال صندوق النقد الدولي في بيان بثته وكالة بترا الخميس : " إن السلطات الاردنية تمكنت من التغلب على " البيئة الصعبة " باتخاذ الإجراءات المناسبة في ظل القرض الذي دعم البرنامج الاقتصادي، مؤكدا أن هذه الجهود قللت من الأثر السلبي لحالة عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه المنطقة، وارتفاع أسعار الطاقة المستوردة وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين " .
ويحق لنا أن نسأل عن هذه الإجراءات التي يتحدث عنها الصندوق ، أو نائبة مديره التنفيذي نعمت شفيق ؟؟ ..
أليست الإجراءات التي يمتدحها الصندوق هي رفع الأسعار ، وإن لم تكن كذلك ، فما هي " البيئة الصعبة " يا ترى ، أليست البطالة والمديونية ووصول كيلو البندورة في الأسواق الشعبية الأسبوع الماضي إلى دينار ، ودينارين في الأماكن الثرية ؟؟ .
ثم : أليس هذا إقرارا بأن هناك برنامجا اقتصاديا جديدا تطلع به الحكومات الأردنية ، خلف البرنامج العتيد ( برنامج التحول الشهير ) الذي اختفى وبرأ النواب ملفاته من أي شبهات ؟؟ .
بداية ، لا بد من الإعتراف : أن صندوق النقد الدولي الذي هو وكالة من وكالات بريتون وودز في الأمم المتحدة ( معاهدة أقرت في العام 1944 ليتمخض عنها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ) لا يعطي قروضا لسواد عيون الدول ، ونظرة سريعة على الدول المدينة تكفي ليعرف البسطاء كيف تُشرب دماؤهم، ويُكرع عرقهم وتمضغ لحومهم بـ " القانون " إياه : قانون الغاب الذي لا مكان فيه للضعيف ، وليس من حظوة فيه إلا للمخلب والناب ؟؟.
دلوني على دولة خرجت من مديونية الصندوق وارفة الظلال ، منسجمة مع نفسها وشعبها .
إن البنك الدولي الذي يهتم بالتنمية ، وصندوق النقد الذي يهتم بالسياسات المالية والنقدية الإصلاحية يلعبان دورا متكاملا في هذا الصدد ، فالأول الذي يفترض وفق موروثه أن تديره الولايات المتحدة ، والثاني الذي يفترض أن تديره أوروبا ، قبل أن تهيمن أمريكا على كل شيء ، ركزا نشاطهما بداية الأمر خارج أوروبا الغربية ، إلا أن السحر الذي انقلب على الساحر في العام 2007 في ما عرف بأزمة الرهن العقاري ، حينما " انسعرت " البنوك في الإقراض عالي المخاطر ، يذكرنا بما تعارف عليه الإقتصاديون بـ " صدمة نيكسون " Nixon shock الذي ألغى استبدال الدولار بالذهب وفرض تعاملا ورقيا أدى إلى الإنهيار الثاني المذكور، ما يعني ان البنك والصندوق لا يعملان إلا وفق مصالحهما وسياساتهما المرئية وغير المرئية في تقسيم العالم واستعباد الدول .
ولا يخفى أنه إذا عجزت أي دولة مدينة عن السداد ، يقوم صندوق النقد بالتوسط لدى الدائنين في ما يعرف " جدولة الديون " التي تعني أن تتوزع الأقساط على عدد جديد من السنوات مع فرض فوائد أكبر على القسط أو الأقساط الجديدة ، ويتم ذلك فعلا ولكن بفوائد أعلى وهلمجرا إلى أن يصبح البلد نفسه رهينة للدائنين بواسطة الصندوق الذي يحدد سياساته وتنميته وأولوياته وطريقة خصخصته وبيع مقدراته ، بل واستخراج هذه المقدرات والثروات وبأية طريقة .
لقد ارتفع الدين في الأردن ، حسب آخر التقارير إلى 25 مليارا ، بإضافة هذين المليارين إلى اللائحة ، مع أن هذا البلد غني جدا وفق تقارير دولية ، وإنني لأتساءل : لماذا كنا نصرخ ونشكو ضيق حالنا في كل مرة كان يفجر فيها المتشددون خط الغاز المصري الذي يربطنا مع إسرائيل ، ولماذا لم نفعل ما فعلته إسرائيل ؟؟ .
لقد أعلنت إسرائيل الاسبوع الماضي أنها بدأت بضخ الغاز المستخرج من حقل في البحر المتوسط ، وذلك بعد أن ألغى المصريون عقودا وقعت معها عقب الثورة المصرية ، وهو الإلغاء الذي دعاها إلى مطالبة مصر بتعويضات قدرها مليارا دولار، اي أنها لم تقف مكتوفة الأيدي تنتظر الفرج من المصريين أو غيرهم ، بل إن مصادر اقتصادية تقول : إن إسرائيل ستكون من مصدري الغاز قريبا ، وها هي تعلن وفق موقع جي بي سي أنها ستستغل حقل غاز جديد قبالة شاطئ غزة ، كل ذلك جرى دون أن ندري بأن إسرائيل " قررت " وفورا ، الخلاص من عبودية غاز مصر ، أما نحن فاكتفينا بالصراخ والعويل عند كل تفجير لخط الغاز : تارة بإعلان الحكومة أن شركة توليد الكهرباء مدينة بمليارات ، وطورا بأن علينا إطفاء أعمدة كهرباء شوارع الأردن العامة بغية التوفير ، وطورا برفع الأسعار مرتين في زمانين متقاربين جدا، حتى إذا انكشف أمر إسرائيل وإنجازها في استخراج الغاز انكشف أمر اقتراضنا من صندوق النقد مليارين ، هما نفس المبلغ الذي تطالب به إسرائيل كتعويضات ، ولقد وقع لنا ذلك ، مع أن لدينا صخرا زيتيا بإمكانه في غضون سنة إن كان لدينا عزم وحزم أن يكفينا مؤونة الطاقة ، بل وبإمكانه أن يجعلنا من مصدري النفط بأفضل مما يفعله الكنديون ، ناهيك عن أنه بإمكاننا مشاركة شركات عالمية باستخراج اليورانيوم الذي يعتبر ثروة الثروات ، وها هي خريطته الإشعاعية تكشف أنه موجود حتى على سطح الأرض فما بالكم بأعماقها .
إن ملياري صندوق النقد كافيان لسد العجز في الموازنة لهذا العام ، ولكن لا يمكن أن يشعر بهما المواطن الأردني أبدا ، ولا أعتقد أنهما سيتعديان النفقات الجارية ، فما هو موقفنا العام القادم يا ترى ، هل نقترض أربعة مليارات مثلا ، وما هو الثمن الذي سندفعه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا في حال طلبنا قرضا آخر ، وهل بقي لدى المواطن الأردني قدرة على تقبل أعباء جديدة ؟؟ .
أضرب مثالا على استخفافنا بعقول بعضنا بعشرات القرارات إن شئتم ، ولكني أختزل ذلك بقرار واحد شهدناه منذ أيام ، وهو تعيين وزير للتموين .
هل يجوز أن نوحي للشعب بأننا قمنا بتعيين وزير تموين ، وهو ما تضمنته التشكيلة الحكومية الأخيرة التي أتمنى لها النجاح ، ولرئيسها السداد ، أقول : هل يجوز تعيين وزير تموين مع أنه لا يمكن أن يسمح لنا بإعادة " التسعير " ؟؟ .
ألهذه الدرجة نستسذج الناس ، كيف يكون هناك وزير تموين في الأردن في ظل توقيع الأردن على اتفاقيات تجارية حرة ، وموافقته على التعويم واحتكام سعر السلعة إلى العرض والطلب ، ثم : بأي قانون سيحكم وزير التموين الجديد ، أم أن الأمر مجرد تسميات بلا أية مضامين ، وأقصد هنا الوزارة ولا أقصد الوزير بالطبع ، وهو شخص أكن له كل الإحترام ؟؟ .
هل الخروج من الأزمات يكون بقروض جديدة ، وبضغط أحزمة الناس على البطون الخاوية أصلا ، أم بتعيين وزراء تموين ، أم أنه بالإلتفات يمينا وشمالا و" حك " رؤوسنا ولو لبرهة ! .
إن الأردن هو بلد الخيرات ، وماذا تجدي الخيرات إن لم تقف خلفها الإرادات ؟؟ .
ماذا يفيد السودان نهر النيل ، إن كانت القرى التي تشاطئه تشرب من آبار ارتوازية وتئن من الجوع وفق تقرير متلفز ؟؟ .
لا يجب أن نفرح بموافقة الصندوق على إقراضنا ، ولكن يجب أن نبكي على ضعف إرادتنا ليكون هذا البكاء حافزا لليقظة ، ثم الفعل .
د.فطين البداد