لماذا تغلق الصحف الأردنية أبوابها ويحجم الإعلام ؟
قليلون أولئك الذين خبروا الإستثمار في الإعلام ، وأنا أحدهم ، ولا أفشي سرا إن قلت : إن الإعلام - بالنسبة لي - عالم متناقض وصعب ومتعب ، ولكنه مشجع ، شريطة أن يكون مهنيا وموضوعيا وخالصا لوجه الحقيقة ، وخلوا من الإبتزاز والإنفلات والتصيد والتقصد والبحث عن المنفعة ، وهي جوانب تطغى - للأسف - على الكثير من القنوات والمواقع والإذاعات ووسائل الإتصال الأخرى عبر العالم ، وأيضا ، هو عالم خلاق يصنع الدول ويصنع الشعوب ويؤثر تأثيرا مباشرا في نهضتها وسموها وخلق أمكنة لها تحت الشمس .
ولما كان الإختلاف يصنع الأفكار ، ويخلق الإبداع ، فإنه لا بأس من اجتهادات في الرأي وخلافات أو حتى اختلافات في أسلوب التغطية ، على أن لا تقلب الحقائق ، فيجمل القبيح ، ويقبّح الجميل ، ويبرأ القاتل ، وتدان الضحية ، وهذه متلازمات في المنطق الإعلامي غير القويم ، ومن هنا ، فإنه يتحتم على المشتغلين في مهنة صاحبة الجلالة التسليم : بأن إعلاما بدون نقاش أو جدال إنما هو " مقبرة " .
والإعلام الذي أتحدث عنه هنا ، له روافع ، وله ارتدادات ، فبالنسبة للروافع فإنها مسؤولية الدول والبرلمانات التي تسن قوانين تتساوق مع ما طرحناه أعلاه عن الإعلام السوي المطلوب ، أما الإرتدادات ، فإنها - هي ذاتها - تلك الإرهاصات التي تخلفها القوانين المعمول بها ، والأنظمة الصادرة عن تلك القوانين ، مما يؤثر سلبا أو إيجابا على أي حقل من حقول الإعلام ، إذ لا يمكنك أبدا أن تنشر الحقيقة في مجتمع تحكمه قوانين عرفية ، كما لا يمكنك الإستمرار ، سواء عبر النت أو الراديو أو الشاشة ، إن كانت القوانين تقوم بعملية " تشليح " بالقطعة ، وهذا " التشليح " رأيناه عبر الأيام الماضية من خلال توقف إحدى الصحف اليومية عن الصدور لأسباب ساقها الناشر في بيانه قبل الإحتجاب ، وهذا مثال من أمثلة بهدف التوضيح .
ولأنني غير مطلع كفاية عما كان يعانيه الناشر الزميل ، فإنه لا يمكنني الحكم على هذه القضية ، ولكنني أعتقد جازما ، بأن القوانين التي تحكم الإعلام هي السبب الذي يجعل صحيفة مثل الدستور ، وهي من أعرق الصحف الأردنية ، تعاني الأمرين ، بل وصحيفة مثل الرأي تخسر لأول مرة منذ صدورها لأسباب سقتها في مقال سابق ، فإذا استثنينا ما أطلقت عليها في المقال المذكور " الحمولات الزائدة " فإن قوانين النشر هي التي تجعل من الإعلام إما طائرا محلقا بجناحيه ، أو " أخلندا " منقبا في الأرض ، ولأن الأمور وصلت إلى عجز بعض الصحف عن دفع رواتب موظفيها وإدارييها ، فإنه كان لا بد من وقفة جادة مع القوانين التي تحكم الإستثمار في الإعلام ، سواء أكان صحيفة ، أم إذاعة أم راديو أم موقعا ألكترونيا أم غيره .
إنني اختلف جذريا مع وزير الإعلام الذي اعتبر أن الصحيفة التي احتجبت مؤخرا هي استثمار خاص ، ولذلك فإن الحكومة لا تدري ماذا ستفعل حيالها ، وهذا موقف ضعيف ولافت ، ذلك لأن الإعلام في أي دولة ليس " دكانة " بالإمكان "انغلاقها " في أي وقت ، وكان على الوزير الزميل ، وهو ذكي كما أعرف ، أن يعترف بان انغلاق أي صحيفة أو قناة أو ما شابه من وسائل الإعلام المرخصة والمعروفة ، له انعكاسات سلبية على سمعة البلد ، وسمعة الإستثمار ، وحجم المعونات الأجنبية ، وتقارير الشفافية ، ثم من قال : إن أبرز الصحف ووسائل الإعلام العالمية المشهورة هي وسائل إعلام حكومية ؟ .
لقد بات واجبا على الحكومة أن تجلس مع المستثمرين في الإعلام لتطوير وتنمية وتعظيم هذه الصناعة التي أضحت من أعقد وأهم الصناعات المعاصرة ، كونها تتعامل مع الإنسان الذي هو أساس التنمية ، ومع كل الحقول التي تضمن لأي دولة الإستمرار والبقاء والتنافسية .
ويحضرني هنا ، على سبيل المثال ، قانون المرئي والمسموع ، ولو أخذناه مقياسا ، فإنك تجد العجب العجاب في هذا القانون والنظام الصادر عنه ، ولعلك تصاب بالصدمة والخيبة ، إن علمت بأن الشروط التي وضعها القانون هي شروط تعود للعصر الحجري ، في زمن بات إطلاق أي قناة جديدة في الدول المعاصرة لا يتطلب سوى إشعار الدائرة المختصة بذلك ، بدون أي تعقيدات كالتي تستفز المطلعين على هذا القانون العجيب ، بل إن بعض الدول لا تطلب حتى هذا الإشعار .
ولأنني لا أرغب في الحديث عن القضايا المالية تحديدا ، لكوني مستثمرا في هذا الحقل ، ولكي لا يقال بأن الأمر شخصي ، فإنني سأتناول بعض بنود قانون المرئي والمسموع ، تاركا القارئ الكريم في دائرة الضوء .
أول ما يواجهكم في القانون ، أن تنظيم اتفاقية الترخيص بين الحكومة والمستثمر ، تشترط حصول الإتفاقية على موافقة مجلس الوزراء كله ، وكأنك تريد أن تعلن حربا ، وليت الأمر وقف عند هذا الحد ، بل إن الشرط يحتم أن تتضمن الإتفاقية الشروط والأحكام التي يجب أن يتقيد بها المرخص له ، وهي شروط مضحكة بالمناسبة ، كما سترون في السطور التالية :
هل تصدقون - مثلا - أن الغرامة المترتبة على المستثمر بهذا الحقل إن أخل بشروط الإتفاقية ، يقررها مجلس الوزراء نفسه .
وهل تصدقون بأن على المستثمر ، أن يقدم أعمال البث ، وإعادة البث للهيئة المعنية في حال طلبت ذلك ، أي بإمكان الهيئة أن تضع قردها على طحين المستثمر صباح مساء ، ولا يحق له الإعتراض ، حتى لو طلبت الهيئة ذلك عشرين مرة يوميا ؟؟ .
وإذا قرأنا ما نص عليه القانون ، من حيث : " التزام المرخص له باحترام حقوق الغير الأدبية والفنية والفكرية " يتضح لنا حجم التعسفية التي يمكن للحكومة أن تمارسها بحق المرخص لهم ، لأن تكييف أي كلمة ، أوحتى قطعة موسيقية للتوافق مع هذا البند سهلة ولا تحتاج إلى تعقيد .
ولكم أن تضحكوا على هذه الفقرة التي تؤكد أننا لا زلنا نعيش في القرون الأولى ، حيث تقول الفقرة " ل " من المادة الثانية " : " إن على المرخص له الإلتزام باحترام " الشخصية الإنسانية " ، ويبدو أن الذي وضع هذه الجملة تأثر بـ " فرويد " ما غيره ، وبالتنويم المغناطيسي ربما ، ناهيك عما تضمنته نفس الفقرة من التزام المرخص له باحترام " حرية الغير وحقوقهم والطابع التعددي للتعبير والمحافظة على النظام العام ، وحاجات الأمن ومقتضيات المصلحة العامة " وكل هذه المفردات لها معان ودلالات مختلفة كما ترون .
والذي يغيظك أن يلزمك القانون بالترويج للصناعات التي لا شأن لك بها ، بدعوى أنك تروج صناعات وطنية ، أي ان المستثمر في الإعلام هو غير المستثمر في الصناعة ، فالأول " طارئ " والآخر " أصيل " ، وذلك بموجب الفقرة " م " التي تقول حرفيا : " مشاركة المرخص له في تنمية الصناعات الوطنية " ، ولاحظوا الفقرة " س " التي تقول : " التزام المرخص له بعدم بث أي موضوع أو تعليق اقتصادي من شأنه التأثير على سلامة الإقتصاد الوطني " أي بإمكان الحكومة ، التقاط أي فقرة أو جملة ، أو خبر ليكون ذلك سببا في إغلاق إذاعتك ، أو محطتك التلفزيونية ، وتحت ذرائع واهية .
وإذا شئتم التوسع معي في ذلك ، فإنه لا بأس عليكم من أن تخضعوا لدورة في التثقيف الوطني وكيفية استخراج القوانين ، و إعمالها ، وعدم إدراجها للنقاش الدستوري كونها قوانين مؤقتة صدرت منذ سنوات ويبدو أنه لا حاجة ملحة لجعلها قوانين عادية لاسباب لا زالت مجهولة والله أعلم .
أعود فأشارككم بعض وجوه الإبداع الذي تضمنه قانون المرئي والمسموع هذا ، ولا بأس إن عرفتم بأنه ممنوع عليكم البث بترددات غير المرخص لكم بها ، وعليكم التقيد بالتردد المخصص وبنطاق التغطية الجغرافي المحدد للبث ، في مخالفة صريحة لكل ما هو عليه الحال في دول العالم ، وليس هذا فقط بل وأيضا تقيدكم بالمعايير " الفنية " المحددة لاستخدام التردد ، وأنت لا تدري ما هي هذه المعايير ، أو من يحددها ، والذي قرأناه آنفا هو الفقرة " أ " من المادة " 21 " من القانون ، وهو ما يحتم عليكم بأن تكون هناك رسوم أخرى وتعقيدات إضافية لأي تردد جديد وأي نطاق جغرافي مستحدث .
أما إذا استعرضنا سويا بدايات الفقرات التي تضمنها القانون ، فإنها باختصار : " يعاقب كل من يمارس ، يعاقب المرخص ، تضاعف عقوبة الحبس ، يلتزم المرخص له " إلخ .. وإذا أردتم المزيد ، فإن على المرخص له أن يتجنب " الإساءة للنظام العام والآداب العامة ، و" عدم المساس بقيم الأمة وتراثها : وكلها مفردات قد تحمل في أي وقت على غير محملها .
إن على الحكومة أن تبعث بتعديل فوري لهذا القانون " القراقوشي " الذي يطفش الإستثمار ، ويبني مدنا إعلامية في دول غير الأردن ، فنخسر مليارات كان بالإمكان أن نربحها ونحن في بيوتنا ، بدل أن " نشحد " من هنا وهناك لنغطي رواتبنا ونفقاتنا الرأسمالية .
د.فطين البداد