لماذا تغلق الصحف الأردنية أبوابها ويحجم الإعلام ؟

تم نشره الأحد 21st تمّوز / يوليو 2013 01:17 صباحاً
لماذا تغلق الصحف الأردنية أبوابها ويحجم الإعلام ؟
د.فطين البداد

قليلون أولئك الذين خبروا الإستثمار في الإعلام ، وأنا أحدهم ، ولا أفشي سرا إن قلت : إن الإعلام - بالنسبة لي - عالم متناقض وصعب ومتعب ، ولكنه مشجع ، شريطة أن يكون مهنيا وموضوعيا وخالصا لوجه الحقيقة ، وخلوا من الإبتزاز والإنفلات والتصيد والتقصد والبحث عن المنفعة ، وهي جوانب تطغى - للأسف - على الكثير من القنوات والمواقع والإذاعات ووسائل الإتصال الأخرى عبر العالم ، وأيضا ، هو عالم خلاق يصنع الدول ويصنع الشعوب ويؤثر تأثيرا مباشرا في نهضتها وسموها وخلق أمكنة لها تحت الشمس .

ولما كان الإختلاف يصنع الأفكار ، ويخلق الإبداع ، فإنه لا بأس من اجتهادات في الرأي وخلافات أو حتى اختلافات في أسلوب التغطية ، على أن لا تقلب الحقائق ، فيجمل القبيح ، ويقبّح الجميل ، ويبرأ القاتل ، وتدان الضحية ، وهذه متلازمات في المنطق الإعلامي غير القويم ، ومن هنا ، فإنه يتحتم على المشتغلين في مهنة صاحبة الجلالة التسليم : بأن إعلاما بدون نقاش أو جدال إنما هو " مقبرة " .

والإعلام الذي أتحدث عنه هنا ، له روافع ، وله ارتدادات ، فبالنسبة للروافع فإنها مسؤولية الدول والبرلمانات التي تسن قوانين تتساوق مع ما طرحناه أعلاه عن الإعلام السوي المطلوب ، أما الإرتدادات ، فإنها - هي ذاتها - تلك الإرهاصات التي تخلفها القوانين المعمول بها ، والأنظمة الصادرة عن تلك القوانين ، مما يؤثر سلبا أو إيجابا على أي حقل من حقول الإعلام ، إذ لا يمكنك أبدا أن تنشر الحقيقة في مجتمع تحكمه قوانين عرفية ، كما لا يمكنك الإستمرار ، سواء عبر النت أو الراديو أو الشاشة ، إن كانت القوانين تقوم بعملية " تشليح " بالقطعة ، وهذا " التشليح " رأيناه عبر الأيام الماضية من خلال توقف إحدى الصحف اليومية عن الصدور لأسباب ساقها الناشر في بيانه قبل الإحتجاب ، وهذا مثال من أمثلة بهدف التوضيح .

ولأنني غير مطلع كفاية عما كان يعانيه الناشر الزميل ، فإنه لا يمكنني الحكم على هذه القضية ، ولكنني أعتقد جازما ، بأن القوانين التي تحكم الإعلام هي السبب الذي يجعل صحيفة مثل الدستور ، وهي من أعرق الصحف الأردنية ، تعاني الأمرين ، بل وصحيفة مثل الرأي تخسر لأول مرة منذ صدورها لأسباب سقتها في مقال سابق ، فإذا استثنينا ما أطلقت عليها في المقال المذكور " الحمولات الزائدة " فإن قوانين النشر هي التي تجعل من الإعلام إما طائرا محلقا بجناحيه ، أو " أخلندا " منقبا في الأرض ، ولأن الأمور وصلت إلى عجز بعض الصحف عن دفع رواتب موظفيها وإدارييها ، فإنه كان لا بد من وقفة جادة مع القوانين التي تحكم الإستثمار في الإعلام ، سواء أكان صحيفة ، أم إذاعة أم راديو أم موقعا ألكترونيا أم غيره .

إنني اختلف جذريا مع وزير الإعلام الذي اعتبر أن الصحيفة التي احتجبت مؤخرا هي استثمار خاص ، ولذلك فإن الحكومة لا تدري ماذا ستفعل حيالها ، وهذا موقف ضعيف ولافت ، ذلك لأن الإعلام في أي دولة ليس " دكانة " بالإمكان "انغلاقها " في أي وقت ، وكان على الوزير الزميل ، وهو ذكي كما أعرف ، أن يعترف بان انغلاق أي صحيفة أو قناة أو ما شابه من وسائل الإعلام المرخصة والمعروفة ، له انعكاسات سلبية على سمعة البلد ، وسمعة الإستثمار ، وحجم المعونات الأجنبية ، وتقارير الشفافية ، ثم من قال : إن أبرز الصحف ووسائل الإعلام العالمية المشهورة هي وسائل إعلام حكومية ؟ .

لقد بات واجبا على الحكومة أن تجلس مع المستثمرين في الإعلام لتطوير وتنمية وتعظيم هذه الصناعة التي أضحت من أعقد وأهم الصناعات المعاصرة ، كونها تتعامل مع الإنسان الذي هو أساس التنمية ، ومع كل الحقول التي تضمن لأي دولة الإستمرار والبقاء والتنافسية .

ويحضرني هنا ، على سبيل المثال ، قانون المرئي والمسموع ، ولو أخذناه مقياسا ، فإنك تجد العجب العجاب في هذا القانون والنظام الصادر عنه ، ولعلك تصاب بالصدمة والخيبة ، إن علمت بأن الشروط التي وضعها القانون هي شروط تعود للعصر الحجري ، في زمن بات إطلاق أي قناة جديدة في الدول المعاصرة لا يتطلب سوى إشعار الدائرة المختصة بذلك ، بدون أي تعقيدات كالتي تستفز المطلعين على هذا القانون العجيب ، بل إن بعض الدول لا تطلب حتى هذا الإشعار .

ولأنني لا أرغب في الحديث عن القضايا المالية تحديدا ، لكوني مستثمرا في هذا الحقل ، ولكي لا يقال بأن الأمر شخصي ، فإنني سأتناول بعض بنود قانون المرئي والمسموع ، تاركا القارئ الكريم في دائرة الضوء .

أول ما يواجهكم في القانون ، أن تنظيم اتفاقية الترخيص بين الحكومة والمستثمر ، تشترط حصول الإتفاقية على موافقة مجلس الوزراء كله ، وكأنك تريد أن تعلن حربا ، وليت الأمر وقف عند هذا الحد ، بل إن الشرط يحتم أن تتضمن الإتفاقية الشروط والأحكام التي يجب أن يتقيد بها المرخص له ، وهي شروط مضحكة بالمناسبة ، كما سترون في السطور التالية :

هل تصدقون - مثلا - أن الغرامة المترتبة على المستثمر بهذا الحقل إن أخل بشروط الإتفاقية ، يقررها مجلس الوزراء نفسه .

وهل تصدقون بأن على المستثمر ، أن يقدم أعمال البث ، وإعادة البث للهيئة المعنية في حال طلبت ذلك ، أي بإمكان الهيئة أن تضع قردها على طحين المستثمر صباح مساء ، ولا يحق له الإعتراض ، حتى لو طلبت الهيئة ذلك عشرين مرة يوميا ؟؟ .

وإذا قرأنا ما نص عليه القانون ، من حيث : " التزام المرخص له باحترام حقوق الغير الأدبية والفنية والفكرية " يتضح لنا حجم التعسفية التي يمكن للحكومة أن تمارسها بحق المرخص لهم ، لأن تكييف أي كلمة ، أوحتى قطعة موسيقية للتوافق مع هذا البند سهلة ولا تحتاج إلى تعقيد .

ولكم أن تضحكوا على هذه الفقرة التي تؤكد أننا لا زلنا نعيش في القرون الأولى ، حيث تقول الفقرة " ل " من المادة الثانية " : " إن على المرخص له الإلتزام باحترام " الشخصية الإنسانية " ، ويبدو أن الذي وضع هذه الجملة تأثر بـ " فرويد " ما غيره ، وبالتنويم المغناطيسي ربما ، ناهيك عما تضمنته نفس الفقرة من التزام المرخص له باحترام " حرية الغير وحقوقهم والطابع التعددي للتعبير والمحافظة على النظام العام ، وحاجات الأمن ومقتضيات المصلحة العامة " وكل هذه المفردات لها معان ودلالات مختلفة كما ترون .

والذي يغيظك أن يلزمك القانون بالترويج للصناعات التي لا شأن لك بها ، بدعوى أنك تروج صناعات وطنية ، أي ان المستثمر في الإعلام هو غير المستثمر في الصناعة ، فالأول " طارئ " والآخر " أصيل " ، وذلك بموجب الفقرة " م " التي تقول حرفيا : " مشاركة المرخص له في تنمية الصناعات الوطنية " ، ولاحظوا الفقرة " س " التي تقول : " التزام المرخص له بعدم بث أي موضوع أو تعليق اقتصادي من شأنه التأثير على سلامة الإقتصاد الوطني " أي بإمكان الحكومة ، التقاط أي فقرة أو جملة ، أو خبر ليكون ذلك سببا في إغلاق إذاعتك ، أو محطتك التلفزيونية ، وتحت ذرائع واهية .

وإذا شئتم التوسع معي في ذلك ، فإنه لا بأس عليكم من أن تخضعوا لدورة في التثقيف الوطني وكيفية استخراج القوانين ، و إعمالها ، وعدم إدراجها للنقاش الدستوري كونها قوانين مؤقتة صدرت منذ سنوات ويبدو أنه لا حاجة ملحة لجعلها قوانين عادية لاسباب لا زالت مجهولة والله أعلم .

أعود فأشارككم بعض وجوه الإبداع الذي تضمنه قانون المرئي والمسموع هذا ، ولا بأس إن عرفتم بأنه ممنوع عليكم البث بترددات غير المرخص لكم بها ، وعليكم التقيد بالتردد المخصص وبنطاق التغطية الجغرافي المحدد للبث ، في مخالفة صريحة لكل ما هو عليه الحال في دول العالم ، وليس هذا فقط بل وأيضا تقيدكم بالمعايير " الفنية " المحددة لاستخدام التردد ، وأنت لا تدري ما هي هذه المعايير ، أو من يحددها ، والذي قرأناه آنفا هو الفقرة " أ " من المادة " 21 " من القانون ، وهو ما يحتم عليكم بأن تكون هناك رسوم أخرى وتعقيدات إضافية لأي تردد جديد وأي نطاق جغرافي مستحدث .

أما إذا استعرضنا سويا بدايات الفقرات التي تضمنها القانون ، فإنها باختصار : " يعاقب كل من يمارس ، يعاقب المرخص ، تضاعف عقوبة الحبس ، يلتزم المرخص له " إلخ .. وإذا أردتم المزيد ، فإن على المرخص له أن يتجنب " الإساءة للنظام العام والآداب العامة ، و" عدم المساس بقيم الأمة وتراثها : وكلها مفردات قد تحمل في أي وقت على غير محملها .

إن على الحكومة أن تبعث بتعديل فوري لهذا القانون " القراقوشي " الذي يطفش الإستثمار ، ويبني مدنا إعلامية في دول غير الأردن ، فنخسر مليارات كان بالإمكان أن نربحها ونحن في بيوتنا ، بدل أن " نشحد " من هنا وهناك لنغطي رواتبنا ونفقاتنا الرأسمالية .

د.فطين البداد

 fateen@jbcgroup.tv

 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات