ماذا سينهب المستثمرون من الأردن ؟
يعلم الدكتور عبد الله النسور ، قبل غيره ، أن قرارات رفع الأسعار التي اتخذها كانت اضطرارية وإجبارية ولا مفر منها ، وبرغم ذلك فإنها - بميزان العقل - لم تكن سوى عمليات " تخدير " سرعان ما يفيق منها الإقتصاد ، وبالأحرى الموازنة لتعود سيرتها الأولى .
اتخذ النسور قرارات جريئة يغبن جرأته عليها كثير من المسؤولين الذين يفضلون دفن الرؤوس في الرمال ، ولقد كان يمهد لأي قرار رفع بكولسات ولقاءات " مغلقة " مع سلطات أخرى ، بعيدا عن أعين الصحفيين والمتطفلين ، وإني لأعلم أن قرارات رفع الأسعار على المواطنين كانت – بالنسبة إليه – تحصيل حاصل ، فإذا كان السيد عبد الكريم الكباريتي رفع الأسعار وألصق بها ما يحفظه الأردنيون عن ظهر قلب ، وهي متلازمة " الدفع قبل الرفع " فإن النسور عكسها وبات الرفع أولا ، هذا إن كان هناك سيولة للدفع أصلا ، سواء بالمخابز التي أعدوا لها " بطاقة ذكية " تعطى لكل من يشمله تحرير سعر الخبز ( طلب رسمي من صندوق النقد الدولي والله أعلم ) أو بالبديل النقدي ذاته ( 19 دينارا سنويا ) وهو طرح تم الأخذ به بديلا عن البطاقة عقب رفض نقابة أصحاب المخابز أي حديث عنه مهددة بالإضراب والتوقف عن الإنتاج .
أسأل دولة الرئيس : حسنا ، إلى متى سيستمر هذا الرفع ، وذلك الدفع ، وهل سيستطيع الأردنيون الإستمرار بهذه الطريقة ؟ ..
قد يقال : إنه أمر طارئ و" تسليك " حال ، إلى أن تبدأ المنحة الخليجية تؤتي أكلها ، ولكن : من يطمئننا أن المنحة الخليجية ، تسير - أردنيا - في الطريق الصحيح ، ومن سيضمن أن لا يقر قانون موازنة العام القادم ثلاث مرات وليس مرتين كما حدث مع قانون موازنة عام 2013 ، ذلك الذي كانت أسبابه الموجبة مضحكة بحق : عندما اكتشفت الحكومة أن الموازنة التي اقرها النواب لا تستطيع تنفيذها لأن وزاراتها لم تضع الخطط اللازمة لتنفيذ مشاريعها ، فتم ترحيل مخصصات من مشاريع إلى أخرى ومن وزارة إلى أختها وكأننا نبيع " بندورة " .
بالمناسبة : كيلو البندورة وصل إلى دينار قبل أيام .
لقد دافع دولة الرئيس عن تعديل قانون الموازنة شخصيا وعن المناقلات التي جرت عليه ، وتبين أن المشاريع الإستراتيجية لم تدرج لا بوزارة الطاقة ولا بوزارة النقل ، ورحلت مبالغها لوزارات أخرى بسبب هذا التخبط في التخطيط ، ولقد فصلنا ذلك تفصيلا في مقال سابق بعنوان : " خبايا غير منشورة عن مناقلات في موازنة 2013 " .. وعليه : فإن الأزمة التي يعيشها المواطن ، والتي هو مجبر على حلها " آنياً " من قوت عياله وحليب أطفاله ليس هو المسؤول عنها ، بقدر ما هي السلطات التنفيذية المتعاقبة ، والتي ورطت الشعب ، بل وورطت حكومة النسور ذاتها بتلكؤها وتفضيلها الحلول الجاهزة ، حتى وجد النسور - بعد تكليفه - بأنه لا رواتب يدفعها للموظفين والمتقاعدين فعمد إلى سياسة ممنهجة في رفع الأسعار ، وآخر صيحاتها رفع الدعم عن الخبز ، لكون سعر طن الخبز المدعوم وصل إلى 40 دينارا ، بينما وصل سعره في السوق الحر إلى حوالي 385 دينارا وتشتريه الحكومة بسعر 345 دينارا تقريبا ، وهو سبب " وجيه " ليتنبه إليه صندوق النقد كما اشرنا .
يدرك ذوو الرأي الثاقب من اقتصاديين وسياسيين : أن الحل الوحيد لمشكلة البلد الإقتصادية ليس المنحة الخليجية فقط والتي ستساهم - بلا شك - في تحريك العجلة المتوقفة ، ولكنه الإستثمار ، وما أدراك ما الإستثمار ..
كل دول الأرض بدلت وغيرت مفاهيمها وقناعاتها وعمدت إلى سن قوانين محفزة للإستثمار ، بما في ذلك الدول الثرية ، بل وأيضا فائقة الثراء ، ولم يعد هناك من بلد في العالم غير مقتنع بحتميته ، أللهم سوى بعض البلدان من تلك التي ليست على الخريط العالمية الفاعلة كشريك في التنمية الإنسانية الشاملة ، فما الذي ينقصنا هنا في الأردن ؟؟ .
قد يقال : إننا وضعنا التشريعات اللازمة للإستثمار ، وأسسنا المناطق الحرة ، والهيئات المستقلة من أجل تحفيزه والإنطلاق به ، ولكن : ماذا كانت النتيجة ؟؟ .
كانت عكسية للأسف : لأن التشريعات ليست قوانين ومجلدات تخرج من ديوان التشريع إلى الحكومة ، ومنها إلى مجلس الأمة ومنه إلى الديوان الملكي للتوقيع ، ومن ثم تعود إلى الحكومة ومنها إلى الجريدة الرسمية ، بل هي عقلية متفتحة مؤمنة لا تضع ألغاما خفية في أرضية القوانين الإستثمارية ، ولا تجعل المستثمر ينكفئ قبل نهاية المشروع ويولي هاربا ، ( هناك عشرات الأمثلة ) وعلى أي حكومة أن تؤمن بأنه لا مكان في هذا الزمان للعزلة والإنعزال ، ولا مجال أبدا إلا أن تلج البلد بوابة العصرنة والإنفتاح ، لأن أي مصنع يقام سيقام في الأردن ، وأي فندق يبنى سيبنى في المملكة ، وأي سوق يعلن عنه سيكون أردنيا وينسب إلى الأردن ويفيد الأردن ، وعلى المواطن أن يعي بأنه ليس بإمكان أي مستثمر أيا كان حجمه ، فردا أم شركة عالمية ، اقتطاع ما استثمره في الأردن كما تقتطع قطعة " البيتزا " ، فالأرض ستظل هي الأرض : تشترى وتباع ولكن بيعها لا يعني أنها ستنقل من أرض الأردن إلى الفضاء وتصبح تدور كالنيزك ، بل ستظل في الأردن وللأردن ، ولا يجوز بأي حال أن يعتبر كل مستثمر غازيا ، ولا كل متطلع للإستثمار متربصا ، ولنا في بلدان العالم المتحضر أسوة حسنة ، وإلا فإن انطباع المستثمرين عن الأردن والأردنيين سيظل سلبيا ، وهذا يعني أن نفقد موارد ضخمة لصالح بلدان أخرى ، مع أننا نشحد الملح .
على الحكومة أن تشرع بخلق فرص استثمارية حقيقية وإقناع المستثمرين بالأردن على أنه بلد الإستثمار والفرص ، وعليها القيام بحملات تنويرية شعبية وبين صفوف الموظفين العامين الذين هم على تماس مع الإستثمار وتشرح للجميع ما معنى أن يأتي مستثمر هنا ، وعليها أن تكاشف الناس وتعترف لهم أنها لا تقوى على الذهاب بالبلد إلى بر النجاة بدون الإستثمار ، واستغلال موارد البلد الطبيعية ، وهي موارد ضخمة نحسد عليها ، ولكننا تركناها حسرة في القلوب ، وندبة في الهمة والعزيمة ، والوصول إلى هذه الغاية لا يتأتى إلا إذا آمنت الحكومة - هي نفسها - بالإستثمار ، وتصرفت حياله بكامل قناعتها ، وعلى الحكومة ، أي حكومة ، أن تعلم أن المستثمرين لم يأتوا إلى الأردن لينهبوه ، لأن السؤال الذي سيطل برأسه هنا : " ينهبون ماذا ، وهل أبقى الحرامية شيئا قابلا للنهب في الأردن " ؟؟ .
د.فطين البداد