من حق رئيس الحكومة أن يحلم بـ " الجنة "
إذا كان ما يتم إنفاقه من قبل الأفراد على متطلبات الحياة الروتينية يعد إنفاقا جاريا تفترضه طبيعة الأشياء ، فإن الأمر لا يختلف عند الحكومات التي تعتمد هذا الإنفاق لنفس السبب ، وقس على ذلك النفقات الرأسمالية " الحكومية " التي هي أساس التنمية ، ولكن شريطة أن يصب هذا الإنفاق في صالح الأولويات ، من مثل : إنشاء مصانع ومعامل وشركات ومرافق مستدامة توفر فرص عمل للعاطلين وتنعش الإقتصاد الوطني .
لقد أنفقت الحكومة الأردنية خلال العام 2013 أكثر من مليار دينار على النفقات الرأسمالية ، تم توزيعها على عدة محاور ، ويبدو أن مشاريع بعينها سيتم الإنفاق عليها من المنحة الخليجية خلال العام القادم ، وقلنا سابقا : إن تلك المنحة أودعت أموالها في البنك المركزي باسم الجهات المانحة ، ويتم الإنفاق منها بفواتير ، وتحت رقابة الصناديق الخليجية المعنية ، وقد بشر رئيس الحكومة مساء الجمعة بانخفاض التضخم نقطة مئوية العام القادم ، مع أنه بالإمكان أن ينخفض لنقطتين . ولكن : كيف ؟ ...
لقد فصلت في مقال سابق المنحة الخليجية وبعض مشاريعها ، فما هو الوضع يا ترى لو أن الدولة استجلبت استثمارات حجمها ضعف المنحة الخليجية وفي عام واحد ، بدل خمس سنوات ، هي سنوات المنحة ؟؟ .
إن الإقتصاديين يعلمون ببواطن الأمور ، ويدركون بأنه لا استثمار حقيقيا بدون قوانين جاذبة ، ولا قوانين جاذبة بدون نزاهة ، وبدون موظفين جذابين وطنيين تعنيهم مصلحة البلد ، ويؤلمهم أن يغادر مستثمر بأمواله إلى بلدان أخرى ، ولو أننا استعرضنا قوانين الإستثمار الأردنية لوجدنا ديباجة من الإغراءات التي لا يطبقها لا مسؤول ولا هيئة ولا مؤسسة ولا ما يحزنون إلا من رحم ربي ، وقد أضرب أمثلة بالوثائق في يوم ما ، ولكن ما يلفت الإنتباه هو أن يأتي البعض للإستثمار في مناطق تابعة لمؤسسات وهيئات وشركات شبه حكومية مدينة ، وبدلا من أن يتم تشجيعهم يتم تطفيشهم بغباء ما بعده غباء ، وكأن " بعض " القائمين على هذه الهيئات أو الشركات أو المؤسسات يديرون أملاك آبائهم وأجدادهم ، أما أن يستفيد الأردن وأبناؤه وتوفر للعاطلين فرص عمل بالمئات وبالآلاف فإن هذا لا يعنيهم لأنهم لا يرون أبعد من مصالح جيوبهم ، وأنانيتهم ، وأنا هنا لا أعني أشخاصا بقدر ما أضرب أمثلة للتقريب وللفهم .
إن ما ينفق على المؤسسات المستقلة يصل إلى أكثر من مليار دينار سنويا ، وإذا استبعدنا المؤسسات والشركات والهيئات التي لا غنى عنها ، فإن ما يتبقى يصل إلى مئات الملايين أيضا ، وما يثير الإعجاب أن حكومة النسور بعثت بمشروع قانون إعادة هيكلة مؤسسات ودوائر حكومية للعام 2013 إلى مجلس الأمة ، فهل خرج من قنواته الدستورية أم لا زال حبيس دهاليزها وعتمتها ؟ .
هناك 64 مؤسسة مستقلة ، ويرغب رئيس الحكومة في إلغاء أو دمج 18 منها في المرحلة الأولى ، وبعث ديوان التشريع بالقانون إلى الحكومة ومنها إلى النواب فماذا جرى ؟ .
لقد دب القائمون على هذه المؤسسات الصوت ، وبدأوا يعتصمون في أماكنهم وفي الشوارع مطالبين بعدم الإلغاء أو الدمج ، والسبب معروف ، ولا زال القانون يتأرجح بين الأعيان وبين النواب ، ولكم أن تتخيلوا نفقات هذه الهيئات وحمولتها الزائدة يوميا ، من سيارات وبنايات ومكاتب وهواتف وأجور وغيرها ، وبات المرء يعتقد أن قانون إعادة الهيكلة هذا غير مقدور عليه ، ذلك لأنه أصبح للمؤسسات والهيئات المستقلة ظهور تحميها ، وأركان مَكينة تُؤويها ؟؟ .
إن ما جعلني أعرج مرة أخرى على هذه المؤسسات ( كتبت مقالا سابقا عنها ) هو أن قوانين الإستثمار تتبع لها ، وإذا عرف السبب ، بطل العجب ، فإذا كانت الحكومة غير قادرة على تفعيل برنامجها وتنفيذه بخصوص هذه الهيئات ( المشرفة على الإستثمار ) فكيف سيكون عليه الأمر بالنسبة للمستثمرين الذين هم مضطرون للتعامل مع هذه الهيئات وهذه المؤسسات ، في الوقت الذي تعتبر فيه كل مؤسسة جزيرة معزولة : لكل منها قانونها الخاصة ، وهو ما يذكر بقوانين الجامعات الحكومية التي جعلتها في معزل عن الحكومة ماليا وإداريا من حيث النفقات والإيرادات ، مع أن الحكومة هي التي تمولها ، وتدفع ديونها .
إن ترتيب بيت الإستثمار الداخلي هو وحده الكفيل بأن تجلب الحكومة ضعف المنحة الخليجية في عام واحد وليس في خمس سنوات ، وإن على مجلس الأمة ، أعيانا ونوابا ، أن يعينوا هذه الحكومة على إزالة هذه الندبة الشنيعة من وجه الإستثمار الذي قد يأفل كما تأفل الشمس ويغيب من سمائنا إلى الأبد ، وحينها يصبح حلم رئيس الحكومة بالنقاط المئوية والإنتعاش كحلم إبليس في الجنة .
د.فطين البداد