لماذا لا يستطيع الأردن إلغاء وادي عربة ؟
أمهل مجلس النواب الأردني حكومة الدكتور عبد الله النسور لطرد سفير إسرائيل في عمان واستدعاء السفير الأردني من تل أبيب والإفراج عن الجندي أحمد الدقامسة حتى الثلاثاء القادم ، ( بعد يومين من موعد صدور هذه المقالة ) وإلا فإن النواب سيصوتون لحجب الثقة عن الحكومة .
ولأن العلاقات الإسرائيلية الأردنية تستعصي على الكسر - بحكم استحقاقات دولية - فإن النواب لم يدرجوا معاهدة وادي عربة ضمن مطالبهم ، خاصة في ظل أوضاع سياسية واقتصادية تعيشها المنطقة والعالم ، حيث كان مطلبهم أمام الإعلام إلغاء المعاهدة ، أما تحت قبة البرلمان فانحصرت بطرد السفير والإفراج عن الجندي واستدعاء السفير الأردني من تل أبيب .
معطيات دولية كثيرة يجب أن تدفع الأصوات العالية للإنخفاض :
فالأمريكان اعترضوا ويعترضون على المفاعل النووي الأردني من أجل أن يعتمد الأردن على الغاز الإسرائيلي ، بل إن معهد واشنطن قال في تقرير السبت : إن خط النفط العراقي - البصرة - العقبة - أثار غضب مسؤولي البيت الأبيض ، ذلك أن أصواتا داخلية تصخب في هذه الأثناء ضد أي مشروع طاقة أردني بما فيه الصخر الزيتي ،وليس اتفاق الأردن الأخير مع شركة " ساكوس " السعودية إلا هروبا إلى الأمام لاستثمار جزء من الصخر الزيتي البالغ احتياطه " الظاهر حتى الآن " 70 مليار طن ، وهو رقم قابل للإزدياد بأضعاف ، وبالفعل ، وقعت الشركة مع الحكومة على اتفاقية استثمار بقيمة 2 مليار دولار ضمن منطقة امتياز حصري تصل إلى أحد عشر كيلو مترا مربعا ، ناهيك أن ضغوطا سياسية تمارس في الخفاء على الأردن من أجل القبول بطروحات خطيرة من مثل حث الفلسطينيين على الإعتراف بيهودية الدولة العبرية ، وهو ما يرفضه الأردن بالمطلق ، ناهيك أن الأمريكان ليسوا بوارد التساهل مع أمر بحجم طرد السفير الذي يعني في العرف الدبلوماسي قطعا للعلاقات ، وقطع العلاقات ، في المحصلة يصب في صالح إسرائيل في أكثر من نقطة ، لا مجال لذكرها وأكتفي ببعضها : من مثل أن معاهدة وادي عربة هي التي تمنع إسرائيل من ضم الأقصى وسحب الولاية الأردنية منه ، وهي التي سمحت للأردن بإنشاء محطة تحلية في خليج العقبة وتزويد الشمال الأردني بالمياه والأهم : هي التي تمنع إسرائيل من الإعتداء على الأردن عسكريا وهي قضية لا يجوز أن نكابر فيها لدرجة الغرور ، مع أن لدينا جيشا قويا ولكن لنعترف : لسنا بقوة هذا الكيان المجرم .
لن تقبل الولايات المتحدة حتى طرد السفير ، وليس إلغاء وادي عربة ، ولنكن صريحين : فإن علاقات الأردن بأمريكا هي علاقات أعمق مما يعتقده كثيرون ، لأسباب سياسية واقتصادية كبرى ولا مناص منها لا تاريخيا ولا الآن ، حيث إن أمريكا ليست بوارد وجع رأس خطير كهذا ، فالأمريكان يعانون من مأزق اقتصادي ، ويكادون ينفضون أيديهم من منطقة الخليج نفسها ومنطقة الشرق الأوسط والتوجه نحو المحيط الهادي ، حيث أصاب أوباما ما أصاب روزفلت في الأربعينات من القرن المنصرم ، عندما كان خائفا مترددا تجاه هتلر ، وهذا ما فعله بخصوص قضية سوريا وتردده بالإنغماس فيها ، ناهيك أن الولايات المتحدة تنفق في الخليج ما يقرب من 15 % من موازنتها العسكرية ، وهي نسبة مكلفة جدا، إذ تعالت الأصوات في الولايات المتحدة كي تنسحب من الشرق الأوسط عموما وبهدوء ، وبدون جلبة ، وهو ما نرى خطواته العملية في عدة صور : منها التخاذل الأمريكي في سوريا - كما قلنا - والغزل مع إيران ، ومحاولة حماية الخليج بالسياسة لا بالقوة ، وغير ذلك من الصور ، ولا يجوز أن ننسى أن الضامن لمعاهدة وادي عربة هو الشاهد عليها " أمريكا " .. التي هي ضلع أساس من مثلث الإتفاقية ، وهي لن تسمح في ظل ظروفها وظروف المنطقة بأي تغيير في المعادلات التي وضعتها بيدها.
على ماذا سيعتمد الأردن في إلغائه وادي عربة ، على أوروبا مثلا ؟؟ ..
إن أوروبا ( 28 دولة ) شأنها شأن أمريكا ، لن تقبل بأن يلغي الأردن الإتفاقية ، وهي أيضا لن تسمح بذلك ، فمشاكلها الدولية لا تمنحها مجالا للتنفس ، وبالرغم من أنها اختلطت فيها الأعراق ، وتداخلت الأوراق ، وكثيف السكان " ألمانيا " مع أقلها سكانا " ماطا " إلا أن هذا الإتحاد الذي يضم نصف مليار إنسان ، والذي هو ليس فيدرالية بالمعنى المطلق ، بل كيانات توحدت على أسس جغرافية وتجارية وزراعية وحقوقية واجتماعية ، يشهد راهنا مصاعب اقتصادية طاغية ، وباتت العضوية في الإتحاد تتطلب كثيرا من التضحيات ، وليست إيطاليا ومشاغلها الإقتصادية أو اليونان أو إسبانيا سوى أمثلة شاخصة على مصاعب كبرى يعانيها اقتصاد هذه الدول ، وباختصار ، فإن أوروبا غير مستعدة للإنخراط أكثر في العالم في الوقت الراهن لانشغالها بقضاياها الداخلية ، أو بأن يتم نسف معاهدات أودعت في الأمم المتحدة ومن شأن إلغائها أن يؤثر عليها اقتصاديا ويضربها في العمق ..
أما العرب ، فلا مجال لتقليب صفحات واقعهم الذي هو أظهر للعيان من الشمس في كبد السماء .
ولأن الوجع الأردني هو وجع اقتصادي بالأساس ، فإني استبعد منه المحاور الأخرى : فصندوق النقد الدولي موجود في واشنطن وليس في موسكو او بيجين رغم عضويتهما في المجلس التنفيذي للصندوق ، والمنح يتلقاها الأردن في العادة من الولايات المتحدة ومن الإتحاد الأوروبي ، والسبب وادي عربة ومعاهدة وادي عربة .
ولما كانت مديونية الأردن تصل إلى 25 مليار دولار ، وعجز موازناته السنوية في تصاعد عاما إثر عام ، فإن أي خطوة بحجم إلغاء معاهدة وادي عربة ، تعتبر فعلا جنونيا وإعلانا للحرب على إسرائيل ، ورفضا من قبل صندوق النقد لمنح الأردن أي قرض ، وعداء أمريكيا سياسيا واقتصاديا ، وامتناعا أوروبيا عن أي مساعدة ، وسيطلب العالم ديونه من بلد لا يفي بمعاهداته المودعة في الأمم المتحدة ، ومن ثم سينهار الإقتصاد وتخرب الدنيا .
وأيا كان الأمر ، فإن إلغاء وادي عربة مستحيل في ظل الظروف الموضوعية الراهنة ، وليست مذكرات النواب التي نادت بهذا الأمر سوى مواقف عاطفية لا سبيل لتنفيذها أبدا ، ولكن : هل بالإمكان طرد السفير من عمان كما طالب النواب ؟ .
أيضا ، فإن طرد السفير ، في المعايير الدولية ، يعني قطعا للعلاقات الدبلوماسية ، وقطع العلاقات الدبلوماسية يعني قطيعة من مختلف الوجوه ، وهو بمثابة إلغاء وادي عربة نفسها بما يحمله هذا الإلغاء من مخاطر ، إلا إن اتفق الطرفان على استدعاء السفراء للتشاور حتى تهدأ النفوس ، وهو ما أرجح أن تعمل عليه الدبلوماسية الأردنية .
ولكن كيف يمكن الرد على مقتل القاضي زعيتر ؟؟ .
إن بإمكان الحكومة الأردنية إغاظة إسرائيل والإفراج عن الجندي الدقامسة الذي يعيش الآن إضرابا عن الطعام ، خاصة وأنه لا لوم رسميا للاردن على خطوة كهذه ، لا من قبل الولايات المتحدة ولا من قبل أوروبا والعالم ، ذلك أن الدقامسة قضى فترة محكوميته القانونية أو يكاد ، وليس هناك من أحد في الأرض يجرؤ " أخلاقيا " على لوم الأردن على خطوة كهذه ، وإذا أفرج عن الدقامسة نكون بذلك رددنا الصفعة للجيش الإسرائيلي أيضا وليس لحكومة نتنياهو وإسرائيل ، : فعندما قتل الجندي الدقامسة الإسرائيليات في الباقورة ، لم يصدر الجيش الأردني ، أو الوحدة التي خدم فيها الدقامسة بيانا يثني فيه على فعل الجندي الأردني ، ولم يقل قائد وحدة الدقامسة : إنه يشعر بالفخر لقتله الفتيات لأن الجندي قام بواجبه " إلا أن الجيش الإسرائيلي وقياداته الوقحة فعلت ذلك ، واعتبرت الجندي الإسرائيلي الذي قتل القاضي الأردني بطلا قام بواجبه ، بل لا يمكن مقارنة حادثة الباقورة بجريمة جسر الملك حسين ، لاختلاف أسباب الفعل ومعطياته الميدانية .
فإذا كان البرلمان الأردني جادا في أن تكون للدولة هيبة ، وإذا لم تستدع الحكومة سفير الأردن في تل أبيب وتفرج عن الجندي ، فإن عليه إسقاط الحكومة بموجب المادة 95 من الدستور التي تبيح لعشرة نواب التقدم بذلك ، ليس فقط للإفراج عن الدقامسة ، بل لإلغاء وادي عربة حتى ، وهو أمر سردنا موانعه قبل قليل .
يفترض برئيس الحكومة استدعاء سفير الأردن من تل أبيب ، والذهاب بنفسه إلى الدقامسة في السجن وإخراجه منه ، لكونه قضى محكوميته المقررة ، فبأي مبرر لا زال يقبع فيه ، أليس حريا بنا أن نرفع رؤوسنا قليلا ، ونستحي على شواربنا ونكون رجالا ، ولو بتطبيق القانون " الأردني " على سجين محكوم . .
ألسنا رجالا ؟ .
د . فطين البداد