قراءة في خطاب الملك الأخير
خاطب الملك عبد الله الثاني قبل أيام أسرته الأردنية الواحدة ، مفاخرا بها الدنيا ، معتبرا أن أي إنجاز لا يتحقق إلا بالتكاتف والتعاضد قلبا واحدا وجسدا واحدا نحو أردن المستقبل الذي يطمح إليه كل أردني وأردنية .
فالأردن يقف اليوم : " أمام الـمستقبل الذي نطمح إليه ونستحقه، الـمستقبل الذي نختاره ونبنيه للأردن بأنفسنا، وليس المستقبل الظلامي الذي يسعى لفرضه من يمارس الإجرام، ويدعي الإسلام، من يمارس الإرهاب، ويدعي الإيمان، فالإسلام ليس أطيافاً وألواناً أو تطرفاً واعتدالاً، الإسلام الجامع هو دين الحق والسلام، وأما من خرج وقَتَل وعذَّب وانتهك الحرمات، فأولئك أعداء الإسلام، والإسلام منهم براء ".
ولكن الولوج إلى المستقبل لايمكن أن يمضي قدما إلا إذا كانت القلوب واحدة ، والتصور واحدا ، والرؤيا متطابقة ، ومن أجل ذلك شدد جلالته على أن الأردنيين جميعا هم حماة هذا البلد : " أنتم صمّام الأمان، وخط الدفاع الأول لهذا الوطن " .
ومن أجل ذلك فإنه لا بد من تجذير فكر حضاري هو في الحقيقة فكر الإسلام الحقيقي الذي حاول الغلاة والمتعصبون حرفه عن سكته وطريقه ، فضلوا وأضلوا ، ولقد نبه الخطاب لهذه الجزئية الخطيرة عندما قال : " لنكن مجتمعاً متآخياً ومتراحماً مثل العشيرة الواحدة، نبني مستقبلنا بتحصين أجيالنا بفكرٍ حضاري مستنير ضد الإنغلاق والتعصب " .
ولعل الإنغلاق والتعصب هو الذي قد يودي بالأمة في مهاوي المجهول ، ما لم تتدارك نفسها وتقوم اعوجاجها ، مستندة إلى الإسلام العظيم ، دين العلم والحضارة والتقدم والإبداع والإبتكار ، لا دين التخلف والإنغلاق ، ولقد حذر الملك في كلمته الصريحة والصادقة من أن ينزلق المجتمع إلى ما لا تحمد عقباه ، مشددا أن على الأسرة دورا عظيما في هذا الشأن : " أنتم أيها الأردنيون والأردنيات، بعقولكم المستنيـرة، ووعيكم الرافض لأن يكون أبناؤكم وبناتكم وقوداً للأطماع والظلام والأجندات التي لا تمثل إنسانيتكم " ولا شك أن دور الأسرة هو المحك والأساس ، فهي الوطن الصغير الذي يشكل بالجميع وطن الجميع .
وبرغم هذه النحذيرات ، لم ينس الملك أن يعيد التأكيد تارة أخرى أن هذا الوطن قوي وقادر ومقتدر على كل ضعيف نفس هزيلها ، حتى لو كان بعض هؤلاء من بين ظهرانينا : " لقد أثبت الأردن أنه أقوى وأكبر من كل ضعاف النفوس، الذين يتربصون بالوطن، أي فرصة للهجوم عليه، أو النيل منه بشتى الوسائل والسبل، وفي كل مرة كنّا على المحك، خرجنا أقوى " وهو تنبيه وتحذير في آن .
وأعاد الخطاب التأكيد على دور الأردن المحوري في المنطقة والعالم ، وكيف لا وهذا البلد الصغير بحجمه ، الكبير بفعله ، بات محط اهتمام الدنيا ، ومن أجل ذلك ، ارتأى الخطاب أن لا يغفل هذه الحقيقة بكل فخر : " إن قوتنا ودورنا الـمحوري في المنطقة والعالم ليس صدفة، بل هو من صنع الأيدي الأردنية المثابرة المبدعة، التي وضعت الأردن على خارطة التميّز والإنجاز، ورفعت راية الأردن عالياً في مختلف الميادين، لهذا نقف اليوم أقوياء بوحدتنا في محيطٍ يموج بالصراعات والنزاعات الطائفية والعرقية، وفوق كل ذلك الإرهاب " .
وعلى الرغم من التحديات التي تعصف بالمنطقة ، إلا أن الملك مصر على المضي قدما في طريق الإصلاح والديمقراطية والعدالة : " ونحن ماضون معاً، ماضون رغم كل التحديات لتعزيز مسيرتنا الديموقراطية، وتنمية مجتمعاتنا، ماضون في تعميق المواطنة الفاعلة على أساس العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، فهذه هي المبادئ الراسخة في الضمير الأردنـي " .
وعندما كان الآخرون يوغلون في تبني أفكار ثبت عقمها في المحيط والإقليم ، ظل الأردن وفيا لمبادئه وعروبته ، ولم ينس الملك شهداء هذا الحمى الذي قضوا في سبيل رفعة الدين والأمة : " .. وشهداؤنا يشهد لهم التاريخ أنهم قضوا في سبيل الله دفاعاً عن رسالة الإسلام، وثرى الأردن، وكرامة شعبه " ، ناهيك عن حماية الأردن للمقدسات في القدس حاملا عبء أمة بأسرها : " لقد حمل الأردن راية الثورة العربية الكبرى، كما حمل شرف مسؤولية حماية القدس ومقدساتها، وقضايا الأمة والإنسانية، وقيم التسامح والوسطية " .
لقد كان خطابا صريحا شفافا ، قلما يتحدث الزعماء بمثله ، فما بالكم وووطننا يواجه تحديات تنوء بحملها الجبال فحملها الأردنيون والأردنيات ، وحملها ملك يحق لنا أن نفاخر به الآخرين ، إذ لا يجوز لأي منا أن ينسى بأن إمكاناتنا ومديونيتنا لو كانت عند غيرنا لتحطمت السفينة منذ زمن ، ولكن ربان هذه السفينة مجرب ماهر ، يمضي بنا ونمضي به إلى العلياء دوما بفضل الله وقوته أولا وآخرا .
د. فطين البداد