هل وقع المئات على بيان ضد بائع غاز في الأردن ؟
في زيارتي الأخيرة للأردن ، لفتني هذا الشاب المكافح الذي طلبت من سائقي التقاط صورة له ، كما وتمنيت على الأخوة في تحرير المدينة نيوز أن تنشر صورته ضمن مقالتي لهذا الأسبوع إن سمح رئيس التحرير بذلك .
أين تراه يذهب دافعا ثلاثة جرار غاز على عربة عرجاء ، بالتأكيد ، سيصل مكانا ما ، ولن يقتصر الأمر على " التوصيل " .. إذ سيقوم بإخراج " الجلد " من جيبه ، ومن ثم يشرع بنصب هذه الجرار في أماكنها التي لا ندري هل هي مطاعم أم بيوت أم محلات أم بائعو بسطات القهوة وأكشاكها التي تنتشر في عمان انتشار الأرجيلة ، ذلك أن آخر الدراسات قالت : إن الأردنيين هم الأول عربيا في التدخين والثالث على مستوى العالم ، ومن أجل ذلك فإن السيجارة وفنجان القهوة صنوان متلازمان .
أينما ذهبت في العالم تجد البحث حثيثا عن لقمة العيش ،فالعمل ليس عربة تجر عليها كيس طحين ، ولا مكتبا وكومبيوتر ، ولا بائع بسطة ، ولا صحفيا أو وزيرا أو رئيسا ، أو رجل أعمال فقط ، بل هو ما يحتاجه كل هؤلاء : إنه الطعام والشراب والكساء والرفاهية وحبة الدواء وأجرة التاكسي وتذكرة الطائرة ، وبغير العمل لا شيء من هذا يكون ، ولا سواه يتحقق .
الأردنيون ، بثقافة العيب التي تجتاح أغلب المتعطلين من شبابهم وبناتهم ، لا يفهمون هذه الحقيقة ، فتراهم وهم مع أصدقائهم يخجلون من شراء " ساندويش فلافل " أو حذاء على بسطة ، أو بنطال من " البالة " ، بل إن بعضهم يفضل السير ساعة في القيظ على أن يستقل " الباص " و" السرفيس " لكي لا يراه أحد من معارفه .
لقد فات أغلب المتعطلين أن العمل عبادة ، وعلى الإنسان أن يعمل أي عمل مشروع وقانوني ، بدل أن يجلس في منزله متثائبا وفاغرا فمه للذباب .
في الأردن مئات آلاف من الوافدين يعملون ، ومثلهم من الأجانب وجنسيات أخرى ، صحيح أن الرواتب عند الأغلبية في الحضيض ولا تكفي أسبوعا من نفقات العائلات ، ولكن شيئا أفضل من لا شيء بالتأكيد ، فلماذا نسمع عن بطالة بين الأردنيين ، بينما لا نرى عربيا في الأردن من الأشقاء عاطلا عن العمل سواء في عمان أو خارجها ؟ .
إنها ثقافة العيب كما قلنا :
فالأردني " أكبر " من أن يعمل " جرسونا " أو " على بسطة " أو عامل وطن في الأمانة والبلديات ، أو يجر عربة تحمل جرار غاز .. إنها " نفخة كذابة " و " كبرة فارغة ".
ظل الأردنيون يتكئون على موازنات الحكومات حتى وصلنا إلى 32 مليار دولار كديون مترتبة على البلد ، بل وصل الأمر إلى لجوء الحكومة إلى الإستدانة من مدخرات الأردنيين ، وهي نقطة خطرة لو كنتم تعلمون .
أدرك بأن الحكومات هي التي أغرقت البلاد في الديون ، وهي التي أكلت بسياساتها الإقتصادية المعتمدة على الجباية الأخضر واليابس ، ولكن أين ذهبت أغلب تلك الأموال ؟.
نظرة متفحصة على واقع العمل والتوظيف في الأردن ، لا بد سيجيب عن جزء من هذا السؤال ، وكما هو معروف ، فإن الجهاز الحكومي بات متخما بموظفين قال عنهم مروان المعشر ذات ندوة في عمان ، بصفته قريبا من الأمم المتحدة : إنها أعلى نسبة في العالم ، والسبب : هو بحث هؤلاء عن " التقاعد المضمون " و" المضمون " هنا تعني الحكومة ومؤسسات الدولة.
وأعجب ما قرأت الأسبوع الماضي ، هو قيام مئات الأردنيين ممن يوصفون بـ "النخبة " ولا أشك بصدقهم وانتمائهم وغيرتهم ، بإصدار بيان طالبوا فيه بإلغاء قانون صندوق الإستثمار ،بدعوى أنه قانون " تطبيعي " وأنه جاء لبيع مدخرات البلد للأجنبي ، وإذا كان المقصود بالأجنبي هنا " إسرائيل " فسبق وقلت في مقالة سابقة : إنه ما من وطني شريف يقبل ان تشاركه إسرائيل في أي عمل في البلد ، ولكن ماذا عن العرب والخليجيين عموما والسعوديين على وجه الخصوص ، وماذا عن الشركات الأجنبية الكبرى ورجال الأعمال والمهتمين بالإستثمار في الأردن من مختلف الملل والنحل ، هل نقول لهؤلاء : ممنوع الإقتراب ، ثم ، الإقتراب من ماذا بلا مؤاخذة ؟ .
وعودة لبيان هؤلاء فأسأل : هل يطلب الموقعون على البيان من الدولة أن تقول للسعوديين " يخلف عليكم ، بطلنا نشارككم في أي مشروع ، مع السلامة " ..
طيب ، وإذا فعلت الحكومة ذلك ، فماذا بعد ؟؟ .
ثقافة العيب ، وأمثال بعض هؤلاء ( أتحدث عن البعض منهم ) ممن لا زالوا قومجيين يدافعون عن مجازر النظام في سوريا وإيران في المنطقة بزعم الوقوف في وجه الصهيونية والإمبريالية والإستعمار والتبعية والإنبطاح والإنسطاح ، ومفردات مشابهة تعودنا على سماعها منذ الطفولة ، هؤلاء وأولئك هم من يشدنا إلى القاع ، ويغمسنا في الرماد : فهم لا يضعون حلولا للأزمات ، ولا شفاء للجراحات ، وفاتهم أن الأردنيين يدفعون ما يصل إلى 83 % من موازنات الحكومات السنوية من جيوبهم ودماء أبنائهم ، ولولا هذا الدفع وهذا النزيف لما كان بالإمكان أن تسير الأمور أو أن يستلم المتقاعدون رواتبهم ، ولقد فات " البعض " من هؤلاء أو أنهم يعرفون ويحرفون : أنه لولا حنكة القيادة في هذا البلد وتمكنها بعلاقاتها العالية والمتميزة مع القوى الكبرى لتخلت عنا المؤسسات الدولية ، ولأصبح الدينار عشرين أو خمسة عشر قرشا أو أقل ، ولكنها ضمانات القروض والعزيمة والتحدي والإصرار التي وصلت إلى تثبيت شراكات استراتيجية مع اقتصاديات أقوى من الأردن بمئات المرات ، وهنا بيت القصيد .
لقد كان هذا البيان ، الذي وقعه مئات الشخصيات ، وفق وجهة نظري التي لا ألزم بها أحدا ، موجها ضد بائع الغاز ، وضد الطالب والمهندس والطبيب وضد انتعاش الإقتصاد ..
على كل المتعطلين في الأردن من البسطاء وخريجي الجامعات أن يتأسوا ببائع الغاز ، ولكن ليس على أي منهم - بسطاء وخريجين وغير خريجين - أن ينخدعوا بالقول : إن الأردن باستطاعته الخروج من أزمته الإقتصادية بسياسة الإنغلاق والأسوار الحديدية في زمن الإنفتاح الإقتصادي والقرن الحادي والعشرين .
مطلوب من الحكومة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية بدون أدنى التفات لقوى الشد العكسي ، حزبيين وغير حزبيين ، قومجيين وغير قومجيين ، وإلا فإننا سنفقد البوصلة تماما ونضيع في العراء .
كل عام والأردن الحبيب وشعبه العزيز وقيادته الحكيمة بألف خير .
د. فطين البداد