مش عيب
لفت نظري مؤخراًِ مبادرة أردنية أطلقها مجموعة من المتطوعين الأردنيين تحت شعار (مش عيب ) .
والهدف من هذه المبادرة تغيير نظرة المجتمع الأردني حول الإنغماس بقطاعات الأعمال التي تعتبر حتى الآن عيبا في الموروث الإجتماعي الاردني ، بحيث أدى هذا الأمر إلى ترك آلاف الوظائف شاغرة ومنها قطاع البناء والتنظيف والمطاعم وغيرها .
ضمن هذا السياق ، سأذكر تجربة وقعت معي عندما دخلت أحد البنوك وإذ بشابة أنيقة تقف عند جهاز لتعطيك رقمك حسب التسلسل المطلوب في البنوك.
كنت أراقب هذه الشابة التي تقف بشموخ وبابتسامة على وجهها لساعات من أجل فعل واحد هو " الكبس على زر " هذه الآلة لتلتقط ورقة صغيرة عليها رقم تعطيه لعميل البنك..
هذا هو عملها إذن ، وهو ما تتقاضى عنه أجراً بسيطاً، لكنها كانت - بالنسبة لي - أعلى شأناً وقيمةً من العديد من الشبان الذين يقبعون في منازلهم لا يزاولون العمل بحجة أن الفرص المتوفرة لا تناسبهم ولا تناسب إمكانياتهم أو شهاداتهم .
ورغم أنني أتفق مع حق أي مواطن بالعمل وفقاً لإمكانياته ومؤهلاته العلمية، إلا أنني أيضاً أختلف معه في البقاء دون عمل على أن يقوم بوظيفة لا تناسب مكانته الاجتماعية بحجة أنها عيب، مقحما تعليله هذا بقوله : " كيف ستنظر إلي العائلة والأصدقاء والمجتمع .. إلخ ........ " ؟ .
ولكن (هذا الشاب أو هذه الصبية) هل فكرا يوماً بنظرة المجتمع لهما وهما عاطلان عن العمل لا يقومان بواجباتهما تجاه عائلتيهما ونفسيهما بالدرجة الأولى ؟؟ ..
ولأعد هنا بالذاكرة إلى مقاعد الدراسة الجامعية في Fresno California State University
.. في مدينة فريزنو ، تلك المدينة الصغيرة في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية ، حيث كان لدينا - كطلاب - ساعات عمل تطوعي نقدم فيها خدمات للمجتمع المحلي الذي نعيش فيه ، بحيث كانت هذه الساعات جزءا من البرنامج الدراسي ، حيث يتوجب علينا تحقيق عدد محدد من الساعات في أي عمل تطوعي نختاره كي نستطيع النجاح، هذا بالإضافة طبعاً إلى مزاولتنا لبعض المهن كالخدمة في المطاعم والبناء والتنظيف مقابل أجر معقول نعين به أنفسنا إلى جانب المصروف الشهري الذي يصلنا من عائلاتنا..
ضمن هذه الثقافة تشكل لدينا وعي بمدى أهمية وضرورة العمل لبناء شخصيتنا : حيث لم نكن نشعر بالخجل من أي مهنة نزاولها مهما كانت مكانتها أو قيمتها ، فقد كان العمل ضرورياً للعيش والدراسة وحتى المتعة.
لقد كان من لا يعمل " حالة شاذة " فعلا ، إذ ينظر إليه نظرة مختلفة لأنه لا يتعايش مع المجتمع الذي هو جزء لا يتجزأ منه شاء أم أبى .
من الآثار الطيبة لهذه الأعمال البسيطة التي مارسناها - كطلاب - أننا تعلمنا الانضباط والالتزام والحس بالمسؤولية وبقيمة المادة وروح الفريق واحترام الآخر..
اليوم ، وأنا أنظر إلى الشباب الأردني الذي يندب حظه العاثر ليل نهار ، ويلقي باللوم على الحكومة لأنها لا تمنحه فرصاً للعمل ، وعلى عائلته ووالديه لأنهما لم يؤسسا له فيقدما مبلغاً من المال حتى يبدأ مشروعه الخاص، فإنني أتعجب من هذا الحال وأستغرب من مقدرة هذا الشباب نفسه إن عمل في الخارج ، كيف أنه يجدّ ويثابر في شتى أنواع المهن بدأب وإرادة صلبة وعزيمة والتزام ، مع أنه يرفض نفس العمل في وطنه بحجة أنه عيب ، معللا ذلك في أنه في الخارج بعيد عن " العين " وبالتالي بعيد عن القيل والقال ..
إن نسبة البطالة اليوم في الأردن تتجاوز ٢٠٪ وهي في تزايد مستمر، ولنعترف بتقصير الحكومات في خلق وتأمين فرص عمل لكل شباب الوطن الجامعي وغير الجامعي، ولكن ليعترف الشباب أيضاً بتقصيرهم في حق أنفسهم وحق عائلاتهم ووطنهم ، وليدركوا حقيقة أنه " مش عيب " العمل في بداية الحياة في البناء والتنظيف والخدمة في المطاعم والفنادق أو في محطة للمحروقات وغيرها من المهن التي يمكن أن يتطور صاحبها من خلالها ، ويمكن أن ينتقل إلى غيرها فالسعي واجب.
ولكن العيب في التواكل والإعتماد على الوالدين في المصروف والاعتماد عليهما في المأكل والمشرب والملبس دون أدنى شعور بالخجل.
العيب في التقاعس عن العمل ، في التكاسل و في إضاعة الوقت ، في الندب واللوم والتذمر ، في الإهمال واللامبالاة...
العيب في أن ننظر للعمل، أي عمل، على أنه عيب ..
العيب - أساساً - في أن نكون عاطلين عن العمل..
أتمنى من هذه المبادرة التطوعية الأردنية التي تعمل تحت شعار " مش عيب " أن تصل بفكرها وأهدافها إلى شبابنا، فأصحاب العمل عندما يلمسون التقاعس من الشباب ويرون تذمرهم ورفضهم لبعض المهن ، سيرغبون – حتماً - في استقدام عمالة أجنبية أكثر اهتماماً والتزاماً ، مما يقلل من فرص العمل للقوى الوطنية.
إذن ، هي دعوة للشباب الأردني الذي يمتلك الطاقة والمقدرة والموهبة بأن يؤمن بضرورة العمل الجاد ، وأن يحترم العمل والعاملين في كافة المجالات ، كي نساهم جميعا في بناء هذا البلد العزيز والحبيب ، أردننا الغالي الذي هو رأسمالنا جميعا .
د. فطين البداد