خلف القضبان
العنوان أعلاه ، ليس عنوانا لرواية متخيّلة ، ولا لدراما تلفزيونية أو سينمائية ، إنها حقيقة جرت أحداثها في الواقع بتاريخ 3/8/2011 عندما شهد العالم العربي بأجمعه بدء محاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك مع نجليه جمال وعلاء ووزير داخليته السابق حبيب العادلي ..
نعم ، هي الحقيقة التي لم تكن تخطر على البال ولا حتى في الخيال ليس فقط منذ زمن بعيد ، بل منذ عام من الآن..
كانت مجرد أمنيات من الشعب المصري الحر لتغيير أوضاعه وتحسين مستواه المعيشي حيث يعيش 40 % منه تحت خط الفقر في مناطق تأبى أن تسكنها الجرذان :
عطالة وبطالة ، نهب وسرقة وفوضى، قمع واستغلال واستبداد، هكذا كان حال المجتمع المصري في عهد حسني مبارك بعد أن كانت مصر هي أم الدنيا ومركز الوطن العربي وقوته.. لكن الشعب المصري البطل استطاع بعد ثورته المباركة في الـ25 من يناير/كانون الثاني أن يعيد المجد والكرامة له ولوطنه ، وأن يعيد لمصر مكانتها وقوتها كدولة محرّكة للأحداث وصانعة للتاريخ.
الشعب المصري اليوم يعيد ألق وعبق التاريخ ويرسم مستقبلاً أفضل في وطنٍ أفضل يسوده القانون وتحكمه العدالة..
هو اليوم يحقق حلماً لكل العرب : بأن نرى الطغاة يحاكمون على أفعالهم ويحاسبون على ما ارتكبوه بحق شعوبهم وما نهبوه من خيرات أوطانهم.
مشاهدة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك خلف القضبان على سرير نقّال، ذليلا ووضيعا مع ولديه ووزيره ومعاونيه ، هي لحظات مشرقة للأمة العربية في ليلها الدامس الذي بدأت مخايل انبلاجه ترتسم على الآفاق في طول الوطن العربي وعرضه ..
لقد نقش المصريون في ذاكرة العرب وسائر الأمم أن فرعون العصر ، ذلك الجبار المتكبر ، غرق في الذل والهوان والخزي ، وها هو يجيب رئيس المحكمة : " نعم، أفندم " ويرفع يده ملوّحاً رداً على نداء اسمه، وسيغدو هذا المشهد بصورته وصوته وأبعاده قولاً ومشهداً توّثقه الذاكرة وترويه الأجيال، حتى يكون عبرةً لكل من تكبّر وتجبّر وظلم واستبد ونسي بأن دوام الحال من المُحال ، ولكل من تغافل عن قوله تعالى " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب "..( صدق الله العظيم ) .
هي لحظاتٌ ملهمة لكل الشعوب العربية التي تناضل اليوم في سبيل حريتها وتضحي بالغالي في سبيل إحقاق قضيتها، فتقدم أبناءها وأنفسها شهداء للوطن والحرية : تلك التي تستحق أن يذاد عنها بكل فخر وفخار ، ضد كل ذل وشنار ، فتطهر بدمائها ودماء أبنائها تراب أوطانها ، لتنبت في كل قطرة دم زكية " شقيقة نعمان " ضمن " شقائق " تغطي حُمرتـُها المدى والآفاق ، فالثمن عزيز وكبير وعظيم ، ولكن الحرية أعز وأثمن وأعظم .
هي لحظاتٌ تشدُّ من عزيمة السوريين والليبيين واليمنيين وتقوّي من إيمانهم بأن الحق لن يضيع وأن الدم لن يذهب رخيصاً وأن إرادة الشعب لا بد أن تنتصر..
ها نحن خلال هذا الشهر الفضيل ، وهذه الأيام المباركة ، نشهد استمرارا لنضالات شعوبنا العربية ، بانتفاضات " سلمية " ونداءات " سلمية " وشعارات " سلمية " غير أنها تمتلك من الجبروت والقوة ما عجزت عنه أسلحة الطغاة من الجلادين الذين جثموا على صدور شعوبهم عقودا اعتقدوا واهمين بأنها قابلة للتحديث والتوريث ،فاستمروا في القمع والعنف والحقد والكره والوحشية وخيانة الله والحق والإنسانية .
أولئك الطغاة قطعوا رواتب الموظفين، ومنعوا معالجة الجرحى في المشافي، وأفرغوا الصيدليات من الأدوية ، ومنعوا الطحين عن المخابز والخبز عن الجياع، وقطعوا الكهرباء والماء والاتصالات، واغتصبوا النساء ويتموا الأطفال وشردوا العائلات بل وحتى منعوا الصلاة.. اولئك السفاحون فعلوا ما فعلوا ويفعلون لعلمهم اليقين بأن القضية بالنسبة إليهم هي حياة أو موت..
ولكنهم لا يدركون أن في لحظة الاختيار المصيري بين " الحزب والقائد " - أياً كان - و "الشعب " - أياً كان - لا يمكن التردد في الإنحياز لاختيار الشعب.
الثورات العربية السلمية التي وقفت في وجه الجيوش الجرّارة والدبابات وفرق الموت بصمود وشجاعة وما تزال لا بد في النهاية أن تنتصر ، وأن يستجيب لها القدر .
تحية إجلال وإكبار للشعب المصري ، وكذلك التونسي الذي يحتفل اليوم بانتصاره وحريته ، عسى أن تكون هذه الحرية بدايةً لدولة مدنية ديموقراطية : دولة القانون والعدالة ، لا دولة الفوضى والجهالة ، والتعّصب والطائفية..
وتحية عزّة وشموخ إلى شعوب سوريا وليبيا واليمن الصامدة وشعبها المرابط .
ورحم الله التونسي أبا القاسم الشابي صاحب : " إذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر ".. فإنه هو نفسه القائل وفي نفس القصيدة : " ومن لا يحب صعود الجبال / يعش أبد الدهر بين الحفر " .
د. فطين البداد