تجريم " الإنتحار "
استدلال غريب عجيب ساقته الحكومة حينما بررت تعديلات قانون العقوبات وعلى رأسها تجريم محاولة الإنتحار ، بأن هذا الأمر " حرام "، وبأن الأردن تحكمه الشريعة .
حدث ذلك أمام الأعيان الذين أقروا مشروع قانوني التنفيذ والعقوبات الإسبوع الفائت ، ولكن تعليل الإنتحار بأنه حرام أمر فريد لم يسبق أن استحضر في معرض دفاع الحكومات عن مشاريع قوانينها .
ما يعنينا من الأمر بأن القانون تم إقراره وذهبت أدراج الرياح كل الآراء والمخالفات التي سيقت ضده ، بما في ذلك آراء مؤسسات دولية محترمة ، ولا نريد أن نكرر ما سبق وقلناه في مقال سابق ، ولكن دخول الحكومة في مسألة الحلال والحرام هو ما يثير فعلا .
الإنتحار حرام ، وهذا أمر معروف ، وهناك أشياء كثيرة تدرج ضمن هذا التصنيف ، ولكنه لا يصلح في معرض الدفاع عن تجريم شخص يحاول الإنتحار حتى لو كان الهدف من إعلانه ذلك إثارة الرأي العام ، لأن من يفعل ذلك إنسان بلغ الإحباط لديه مبلغا خطيرا دفعه لهدر كرامته وشخصيته الإنسانية التي تقول الحكومة إنها مقدسة ولها الحق بالحياة ، ومثل هذا الشخص بحاجة لعلاج مشكلته والكشف عن صحته النفسية والأجتماعية وربما العقلية ، إلا إذا كان يراد من مثل هكذا تعديل أن تقطع الحكومة آخر نفس في الشكوى من الفاقة أو العجز أو اليأس على طريقة المثل القائل : " سكر عليه بشوكة " .
تجريم محاولة الإنتحار لا تخدم حماية الحق في الحياة كما تقول الحكومة وإلا فعليها أن تجيب عن هذا الكم الكبير من المنتحرين فعلا خلال العام الماضي وليس محاولي الإنتحار :
فوفق تصريح رسمي صادر عن مدير المركز الوطني للطب الشرعي فإن عدد المنتحرين خلال عام 2021 بلغ 167 شخصا ، هم 24 أنثى و 125 ذكرا من مختلف الأعمار ، ولم يذكر التصريح - للأسف - عدد محاولي الإنتحار الذين لم ينتحروا حقيقة ، ولو فعلوها بعد نفاذ القانون لكنا رأيناهم الآن في السجون بدل مراكز الرعاية .
حتى وإن وقع القانون ونشر في الجريدة الرسمية فإننا نعتقد جازمين ، بأن الحكومة ستضطر لتعديله عاجلا أم آجلا ، نظرا لما يلاقيه من رفض شامل من مختلف الفئات والمؤسسات الأهلية المحلية والدولية ولتعارضه مع الدستور نفسه الذي فرض على الحكومة توفير التعليم والعمل والصحة لمواطنيها ، وإذا لم تستطع بحكم ضيق ذات اليد فعليها على الأقل أن تأخذ بمقترح رئيس مجلس الأعيان الذي طالبها بإنشاء صندوق للمدينين ، ولا نعرف فعلا كم عدد المدينين المنتحرين لأن التصريح الذي أطلقه مدير المركز الوطني للطب الشرعي لم يعلن عن طبيعة هذه الفئات باستثناء أعمارها .
إذا كان الإنتحار حراما ، وهو فعلا حرام ، وحق الحياة مقدسا ، وهو أمر مقدس لا جدال فيه ، فإن حق العيش الكريم مقدس أيضا ، ويجدر بالحكومات التي تلجأ إلى نصوص خارجة عن سياقها ودلالاتها لتمرير قوانينها أن توفر هذا العيش الكريم للناس لا أن تتركهم في مهب الغلاء والأسعار والبطالة والفقر ولعانة الوالدين .
حمى الله الأردن .
د . فطين البداد