الشراكسة بين الاغريق والعرب .. والحثّيين
* روايات كثيرة تحدثت عن أصول الشركس , فتردَّهم احداها إلى جذور إغريقية , وأخرى إلى أمة آل (أنت) القديمة , وثالثة تردُّهم إلى جذور عربية , فيما تقول رواية إنهم عاد وثمود , والبعض يردهم الى الحثِّيين.
والشركس أطلقوا إسم (أديغه / أديكه) على أنفسهم وهو الإسم القومي الذي ما زالوا يستعملونه حتى اليوم , وآل ( أديغه ) سكنوا جنوبي القفقاس وسواحل البحر الأسود قبل السيد المسيح بآلاف السنين .
بدأت مشاركة الشركس في الحكومات الأردنية بعد عشر سنوات من تأسيس الإمارة الأردنية في 11 / 4 /1921 م, وكان عمر حكمت أول وزير في عهد الإمارة في حكومة الشيخ عبد الله سراج ( 22 /2 / 1931 م ). بقي تمثيل الشراكسة في الحكومات الأردنية لخمسة عُقودٍ حِكرا على أربع عشائر هي : عشيرة آل المفتي حبجوقة / قبرطاي , وعشيرة توقه / قبرطاي , وعشيرة آل حكمت , وعشيرة آل قومق / قمق. وقد حظيت عشائر القبرطاي / القبرداي بالعدد الأوفى من الوزراء الشراكسة (14 وزيرا , ووزيرة ) ثم آل حكمت ( وزيران ) , القومق ( وزير ) , البزادوغ ( وزير , ووزيرة) , الأبزاخ ( وزير ) . وترأس سعيد المفتي حبجوقة / قبرطاي أربع حكومات , وشغل منصب نائب رئيس الوزراء في ست حكومات , وشغل المنصب الوزاري في أربع حكومات, فيما شغل وصفي محمد ميرزا القومق / المنصب الوزاري 7 مرات .
وزراء العشائر الشركسية
بدأت مشاركة الشركس في الحكومات الأردنية بعد عشر سنوات من تأسيس الإمارة الأردنية وتشكيل أول حكومة أردنية برئاسة أحد رجالات الحركة الوطنية العربية اللبناني الدرزي الرئيس رشيد طليع في 11 / 4 /1921 م , فقد شغل الوجيه الشركسي السيد عمر حكمت المنصب الوزاري في عاشر حكومة في عهد الإمارة شكَّلها الشيخ عبد الله سراج في 22 /2 / 1931 م , ويُلاحظ أنَّ تمثيلَ الشراكسةِ في الحكومات الأردنية بقي لخمسة عُقودٍ في عهدي الإمارة والمملكة حِكرا على أربع عشائر هي عشيرة آل المفتي حبجوقة / قبرطاي ممثلةً بالوزراء سعيد المفتي وأبني عمه زهير وعزِّ الدين , وعشيرة توقه / قبرطاي ممثلةً بالوزير عبّاس محمد ميرزا , وعشيرة حكمت ممثلةً بالوزير عمر حكمت , وعشيرة آل قومق / قمق ممثلةً بالوزير وصفي ميرزا قومق .
كما يلاحظ أن عشائر القبرطاي / القبرداي حظيت بالعدد الأوفى من الوزراء الشراكسة , فالسيد سعيد المفتي حبجوقة شكَّل أربع حكومات برئاسته , وشغل منصب نائب رئيس الوزراء في ست حكومات , وشغل المنصب الوزاري في أربع حكومات , وشغل السيد سامي أيوب المنصب الوزاري ست مرات , وشغل السيد عز الدين المفتي المنصب الوزاري أربع مرات , وشغل السيد عبَّاس محمد ميرزا توقة المنصب الوزاري في ثلات حكومات , وشغل الدكتور محمد خير مامسر المنصب الوزاري ثلات مرات , وشغل كل من المهندس عمر عبد الله دخقان والمهندس أحمد مجيد دخقان والدكتور محي الدين توق المنصب الوزاري لمرتين , وشارك كل من السيد عبد القادر طاش والسيد زهير المفتي والسيد سعيد شقم والسيد شاهر باك الأسكر والسيد محمد علي رضا والسيد عوني يرفاس والسيدة نانسي باكير المنصب الوزاري لمرَّة واحدة , وجميع هؤلاء الوزراء من عشائر القبرطاي / القبرداي .
أما عشائر البزادوغ فشارك منها في حكومات أردنية الوزير المهندس منير صوبر ( مرة واحدة ) , والدكتورة علياء حاتوغ بوران ( مرتان ) , ومن عشيرة آل حكمت شارك الوزير عمر حكمت ( مرتان ) ونجله ينال حكمت ( أربع مرَّات ) , ومن عشائر الأبزاخ شارك السيد مأمون نور الدين لئسة ( مرة واحدة ) , ومن عشائر القومق / القمق شارك السيد وصفي محمد ميرزا ( سبع مرات ) .
عشيرة آل حكمت
عمر حكمت
كان السيِّدُ عمر حكمت أوَّلَ شركسيٍ يشارك في حكومةٍ أردنيةٍ وزيرا للعدلية في عاشرِ حكومةٍ في عهد الإمارة المشكَّلة برئاسة الشيخ عبد الله سراج في 22/2/1931م , ثم شارك وزيراً للعدلية والتجارة والزراعة في حكومة الرئيس توفيق أبو الهدى المشكَّلة في 25/9/1940م .
وكان الوزيرُ عمر حكمت قد شغل مناصبَ هامةً في العهد العثماني منها منصب مدير شرطة ديار بكر في عام 1915م, ومدير عام شرطة حلب في عام 1918م , وانتقل بعد ذلك إلى حيفا بفلسطين ليشغل منصبَ رئيس المحكمة في حيفا .
وبعد تأسيسِ إمارة شرقي الأردن أو »حكومة الشرق العربي« وهو الاسم الرسمي للإمارة, كان السيِّد عمر حكمت أوّلَ مديرٍ للشرطة في عمَّان في عام 1923م , ثم أصبح رئيساً لمصلحة الاستئناف في عام 1926م , وبعد ذلك شغل المنصبَ الوزاري , ثُمَّ تولَّى رئاسة الديوان الملكي في عام 1947م .
ينال عمر حكمت
وشارك السيِّد ينال عمر حكمت في حكومة الرئيس زيد الرفاعي وزيراً للسياحة في تعديلٍ جرى على الحكومة في 19/12/1988م , ثُمَّ شارك في حكومة الشريف زيد بن شاكر ( الأمير فيما بعد) المشكَّلة في 27/4/1989م وزيراً للسياحة والآثار , ثُمَّ شارك وزيراً للسياحة والآثار في حكومة الشريف زيد بن شاكر ( الأمير فيما بعد ) المشكَّلة في 21/11/1991م ,ثُمَّ شارك بنفسِ المنصبِ في حكومة الدكتور عبد السلام المجالي المشكَّلة في 29/5/1993م .
وزراء عشائر القبرطاي / القبرداي
سعيد المفتي حبجوقة
على صعيد مشاركته في الحكومة فقد شارك السيِّد سعيد محمد المفتي حبجوقه (القبرطاي ) لأوَّلِ مرة في حكومة أُردنيةٍ وزيراً للداخلية في أوَّلِ حكومةٍ شكَّلها الرئيس سمير الرفاعي في 15/10/1944م ( عهد الإمارة ) , ثُمَّ شغل منصبَ وزير المالية ومنصبَ وزير الشؤون الاقتصادية ومنصبَ وزير المواصلات في حكومة في حكومة الرئيس توفيق أبو الهدى المشكَّلة في 8/9/1951م , ثُمَّ في حكومة الرئيس أبو الهدى المشكَّلة في 30/9/1952م, ثُمَّ شغل منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الدولة في حكومة الدكتور فوزي الملقي المشكَّلة في 5/5/1953م , ثُمَّ عاد ليشكِّلَ حكومته الثالثة في 30/5/1955م وشغل فيها إلى جانب الرئاسة منصبَ وزير الخارجية , ثُمَّ شكَّل حكومته الرابعة في 22/5/1956م , ثُمَّ شغل مناصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الزراعة في حكومة الدكتور حسين فخري الخالدي المشكَّلة في 15/4/1957م خلفاً للوزارة الحزبية التي كانت برئاسة الرئيس سليمان النابلسي , ثُمَّ شغل منصبَ نائب رئيس الوزراء في حكومة الرئيس سمير الرفاعي المشكَّلة في 27/3/1963م , ثُمَّ شغل نفسَ المنصبِ في حكومة الشريف حسين بن ناصر المشكَّلة في 9/7/1963م
والجديرُ بالذكرِ أنَّ الرئيس سعيد المفتي كان قد شارك بحكم عضويته في المجلس التشريعي للإمارة في حكومة الرئيس حسن خالد أبو الهدى الصيَّادي المشكَّلة في 17/10/1929م ثُمَّ في حكومة الرئيس إبراهيم هاشم المشكَّلة في 18/10/1933م حيث جرت العادةُ على أن تضمّ الحكومةُ بعضَ أعضاء المجلس التشريعي بحكم عضويتهم في المجلس .
عز الدين المفتي حبجوقة
وشارك السيِّد عزُّ الدين محمود المفتي حبجوقه (القبرطاي ) وهو ابنُ عمِّ الرئيس سعيد محمد المفتي في أوَّلِ حكومة شكَّلها الرئيس وصفي التل في 28/1/1962م وزيراً للمالية والجمارك , ثُمَّ شغل نفسَ المنصبِ في حكومة الرئيس وصفي التل الثانية المشكَّلة في 2/12/1962م , ثُمَّ شغل منصبَ وزير المالية في حكومة الرئيس وصفي التل الثالثة المشكَّلة في 13/2/1965م , ثُمَّ شغل منصبَ وزير المواصلات في حكومة الرئيس سعد جمعه المشكَّلة في 2/8/1967م .
زهير المفتي حبجوقة
وشارك السيِّد زهير محمد المفتي شقيقُ الوزير عز الدين المفتي وأبن عم الرئيس سعيد المفتي في أوَّلِ حكومةٍ شكَّلها الرئيس زيد الرفاعي في 26/5/1973م وزيرَ دولةٍ للشؤون الخارجية .
وينحدرُ » آل المفتي « من قبيلة القبرطاي الشركسية التي كانت تتولَّى الزعامةَ على مساحاتٍ واسعةٍ في »قفقاسيا« , وقد أخذت القبيلةُ إسمَها من إسم شيخها وزعيمها » قبار دقوه « وترجمتها بالعربية » ابن قبارد « , وتتوزَّع قبيلة القبرطاي إلى عدَّة بطونٍ وعشائرَ منها عشيرة حبجوقه (حفجوقة) التي ينتمي إليها آل المفتي .
ويلتبس الأمرُ على الكثيرين حول علاقة القربى بين الوزيرة السابقة السيدة إنعام المفتي مع الرئيس سعيد المفتي والوزراء الآخرين من آلِ المفتي , وللتوضيح نشير إلى أنَّه لا توجد صلةُ قرابةٍ بين السيدة إنعام المفتي ووزراء آل المفتي حيث أنَّ السيدةَ إنعام المفتي تنحدر من عائلة آل قدُّورة العربية المخزومية بفلسطين , بينما آل المفتي هم من العائلات الشركسية .
جذور الشراكسة
يذكر كتاب » الشركس , أصولهم , تاريخهم , عاداتهم , تقاليدهم , هجرتهم إلى الأردن « لمؤلفه الباحث محمد خير حغندوقة أن الشركس أطلقوا إسم (أديغه) على أنفسهم وهو الإسم القومي الذي ما زالوا يستعملونه حتى اليوم .
ويقول بعض الباحثين وعلماء التاريخ إن الإغريق هم أجداد الشركس وكان هؤلاء يطلقون على الشركس إسم (كركت) , ثم تحوَّل هذا الإسم على مرِّ الزمن والعصور إلى شركس أو جركس , كما جرت العادة في مختلف لغات العالم بفعل البيئة والتطور , وهناك من يقول ان الشركس ينتمون إلى أمة آل (أنت) القديمة , التي كانت تقطن في العصور السحيقة غربي القفقاس وسواحل بحر قزوين والبحر الأسود , وأصحاب هذا الرأي , ومنهم المؤرخ الشركسي شورا بكمرزانوغمو , يقولون أن أمة آل (أنت) تعرف باسم ( أنتي كه ) كما يعرف الشركسي باسم ( أديغه ) , إلا أن حرف التاء في (أنتي كه) قد تحول إلى دال للتخفيف , وحذفت النون , لأنها تخل بسلامة النطق مع الدال , أما ( كه ) فهي أداة نسبة , وهكذا أصبح الاسم (أدي كه ) هو ( أديغه ) وهو الاسم القومي للشركس .
والاعتقاد السائد هو أن ( نارت ونات ) , الاسمين الشائعين بين الشركس حتى اليوم , مشتقان من (أنت) , مع زيادة حرف الراء الذي هو حرف إشارة في اللغة الشركسية , وقديما كان يطلق اسم نارت على الأبطال , أو كان يضاف إلى أسمائهم مثل ( نارت - سوسروقه ) وهو أحد أبطال الشركس الذي أقيم له صرح مرتفع في (نالجك) عاصمة جمهورية ( قبردينا بلقاريا ) الشركسية في القفقاس تخليدا لبطولته , وتصف الأساطير الشركسية هذا البطل بأنه لم تلده أمه , بل إنه خرج من صلب صخر صلد , الأمر الذي يشير إلى البطولة الخارقة .
ويقول الدكتور محمد علي بشحالوقة في كتابه (عاد وثمود ) أن (النارت) هم عاد وثمود , العمالقة وطوال القامة , وقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم في سورة الفجر .
أما المؤرِّخون الألمان والفرنسيون , فإنهم يؤكدون على أن آل ( أديغه ) قد وجدوا جنوبي القفقاس وسواحل البحر الأسود قبل السيد المسيح بآلاف السنين , وكانوا في عهد ما قبل التاريخ ضمن اتحاد دولة الحثِّيين الذين استولوا على آسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين , ووصلوا إلى الشام ونهر الأردن وبحر لوط ( البحر الميت ) , وعندما هاجمهم الآشوريون والكلدانيون تراجعوا حتى جبال القفقاس الجنوبية بعد أن دبَّت الفوضى بين صفوفهم ثم استقرُّوا بعد ذلك , ولذلك يُرجِّح المؤرِّخون الفرنسيون والألمان أن الشركس هم أحفاد الحثِّيين , بدليل أن ملابسهم وأزياءهم وأسلحتهم وأغطية رؤوسهم , مطابقة تماما لما لدى الشركس , كما أن أسلوب الحكم عندهم يماثل أسلوب الحكم عند الشركس .
وقد دخلت المسيحية بلاد الشركس عن طرق الرهبان والقساوسة الإغريق في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان , الذي أدخل المسيحية أيضا جنوبي القفقاس قبل ذلك في القرن السادس الميلادي , إلا أن الشركس لم يأخذوا من تعاليم المسيحية إلا ما لاءم عاداتهم وتقاليدهم وأمزجتهم ,وقد انتهت المسيحية لدى الشركس عندما اعتنقوا الدين الإسلامي بشكل جماعي في نهاية القرن السابع عشر الميلادي , بإرادتهم واختيارهم , ولكن كان بين الشركس من اعتنق الإسلام في جنوبي القفقاس قبل ذلك التاريخ , أثناء الحملات الإسلامية .
ووصف علماء التاريخ الشركس بأنهم قوم فطريون وذوو فصاحة ولسان , ويتمتعون بمجتمع ديمقراطي ليس فيه خضوع للحاكم , وكانوا يعترفون منذ زمن سحيق لبعض الأسر بالزعامة , ممن تتوفر في رجالها صفات الزعامة كالرجولة والنبل والشرف والشهامة والكرم وإنكار الذات , كما أنهم يعشقون الخيل والسلاح والشعر والغناء والرقص .
ويورد كتاب »تاريخ شرقي الأردن وقبائلها« لمؤلفه فريدريك . ج . بيك رواية لم يشر إلى مصدرها تقول إن الشراكسة أمة عربية في القدم , وكان يطلق عليهم في السابق أسماء مختلفة منها ألزيه , ودجيق , وآهاي , وقوسوغ , وينقل بيك عن كتاب للسائح الإيطالي جورج إنتريانو الذي عاش في النصف الأول من القرن الخامس عشر أن اليونان واللاتين كانوا يطلقون على هؤلاء القوم اسم ألزيه ويدعونهم التاتار والترك والشركس , أما الشركس فقد كانوا يُسمُّون أنفسهم أديكه , ويقول بيك إنه قد ثبت تاريخيا أن الشراكسة كانوا مستقرِّين في جبال القفقاس في القرن العاشر , وفي القرن الحادي عشر أغار عليهم أمير روسي بمؤازرة إمبراطور اليونان وقتل رئيسهم ( لم يذكر إسمه ) , وطيلة القرن الثاني عشر كان الشركس والروس في صراع شديد مستمر .
ويذكر بيك أنه بعد فتح الأتراك للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في عام 1453م حاولت حكومة شبه جزيرة القرم التي كانت تستند على دعم حكومة الباب العالي التركية بسط نفوذها على قبائل الأديكه ( الشركس ) وإخضاعها لسلطاتها , فلم يكن أمام الشراكسة إلا الالتجاء إلى الروس والتحالف معهم , ولكن سرعان ما انفرط عقد هذا الحلف بعد أن أخذ الدين الإسلامي ينتشر بسرعة فائقة بين القبائل الشركسية في أواخر القرن السادس عشر, ليتبدل العداء صداقة والحرب سلاما بين حكومة القرم والشركس صداقة وسلاما , ولكن روسيا لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا التضامن الذي فاجأها بين الشركس والقرم , فأرسلت حملة أثر أخرى مؤلفة من عصابات وجند من القوزاق للاستيلاء على قفقاسيا وطرد أهلها منها , ثمَّ أصدرت إمبراطورة روسيا كاترينا الثانية في عام 1783م بيانا إعتبرت بموجبه قفقاسيا وشبه جزيرة القرم من ضمن الأملاك الروسية , ورفض الشركس ان يكونوا تبعا للروس فاخذوا يرقبون الفرص للثورة ضدهم , ولما أعلنت الحرب بين الترك والروس في عام 1787م انضم الشراكسة تحت قيادة زعيمهم حينذاك الشيخ منصور إلى الجيش التركي , ولكن الروس تغلبوا في هذه الحرب ودخلوا قلعة أنابا في عام 1791 م , ووقع الشيخ منصور أسيرا في أيديهم وأرسلوه إلى منفى سولوفكى حيث قضى أواخر أيامه , وفي معاهدة ياشي التي أبرمت في عام 1791 م بين الفريقين المتحاربين تمَّ إرغام تركيا على الإعتراف بضم بلاد الشركس إلى روسيا نهائيا , غير أن الشراكسة لم يعترفوا بهذ المعاهدة وأعتبروها مجرد قصاصة ورق , وأخذوا يشنُّون الغارات على الحاميات الروسية المرابطة في بلادهم حتى أرغموا الحامية التي في قلعة أنابا إلى الانسحاب لجهات نهر كوبان .
ويشير فريدريك . ج . بيك إلى أن محور السياسة الروسية طيلة القرن التاسع عشر كان تطبيق السياسة التي وضعها بطرس الأكبر والتي كانت تهدف إلى استعمار البحر الأسود وبحر قزوين (الخزر) , ولتحقيق هذه السياسة كان لا بد من الاستيلاء على قفقاسيا الغربية والشرقية , فوقف الشراكسة مدافعين مستبسلين في الذبِّ عن أوطانهم , ولكنهم رغم شجاعتهم واستبسالهم لم يتمكنوا من دحر الروس عن بلادهم , ولما زار القيصر إسكندر الثاني بلادهم في عام 1861 م طلبوا منه ان يكفَّ عن الفتك بهم , فعرض عليهم خيارين لتلبية طلبهم : إما قبولهم بالإنتقال من وطنهم إلى الأراضي التي تعيِّنها لهم الحكومة الروسية , وإما النزوح من تلقاء أنفسهم إلى تركيا , ورفض الشركس الخيارين واستأنفوا التصدِّي للروس , لكنهم في نهاية المطاف وأمام القوة الروسية الغاشمة وأساليبهم الوحشية اضطروا إلى هجر أوطانهم والالتجاء إلى تركيا , وقد وصف هذه الهجرة الكاتب الروسي بيرجي الذي يعتبر المؤرِّخ الرسمي للحكومة الروسية في إحدى مؤلفاته حيث قال » حشر الروس قبائل الناتوخاي والقبرطاي وعشائر الأبزاخ والشابسوغ والأبخ في السواحل ثم أجبرتهم على الصعود إلى البواخر الذاهبة إلى تركيا « , ونزل ملتجئو الشركس في الرومللي , بيد ان توغل الروس في الأراضي التركية عام 1877 م أرغمهم إلى الهجرة ثانية , فتفرَّقوا في سوريا وشرقي الأردن حيث منحتهم الدولة العثمانية أراضي يعتاشون من زراعتها .
ويذكر فريدريك . ج . بيك أن الشابسوغ كانوا أول من هاجر من تركيا على ظهر إحدى البواخر , ولما كانوا في عرض البحر اندلعت السنة النار في الباخرة فاحترق ما يقارب من السبعمائة نفس , ونزل من سلم منهم في عكا , ثم ارتحلواإلى نابلس حيث مكثوا قرابة عام , ومنها رحلوا إلى شرقي الأردن واستوطنوا عمَّان بعد أن أعطتهم الحكومة العثمانية بعض أراضيها , وفي عام 1880 م هاجر إلى شرقي الأردن جماعات من قبيلتي القبرطاي والبظادوغ (البزادوغ) فاستوطن القبرطاي في عمان , واستوطن البظادوغ في قرية وادي السير , وفي عام 1892 م قدمت جماعات أخرى من القبرطاي إلى عمان وأنشأوا ما يعرف الآن بحي المهاجرين , وفي عام 1901 م قدمت إلى شرقي الأردن عائلات أخرى من القبرطاي والبظادوغ فبنوا قرية ناعور وسكنوا فيها , وآخر من قدم من الشراكسة إلى هذه البلاد كان بضع عائلات من القبرطاي أيضا استوطنت قرية الرصيفة في عام 1909 .
}في الحلقة القادمة بإذن الله :
تتمة الحديث عن وزراء الشركس وجذور عشائرهم.
ملاحظة ... هامة
سيستغرق الحديث عن وزراء العشائر الشركسية وعن جذورها عدَّة حلقات , فأرجو من المهتمين متابعة جميع الحلقات ثم تزويدي بأية تصويبات أو إضافات أو تعقيبات .